في كلِّ حجرٍ من حجارة هذا المسجد العريق، تنبضُ حكايةٌ ضاربةٌ في عمق الزمان، وكأنّ أنفاس الأجداد لا تزالُ تعبقُ في جنباته. حين تتأملُ مئذنته الشامخة وهي تحتضنُ صفحة السماء، تشعرُ كأنها تروي بصمتٍ سيرة قرونٍ من الكفاح والأمل. هو مسجدٌ وُلد من رحم التحدّيات، نبت على أرضٍ كانت يومًا مقبرةً للمسيحيين، ثمّ صار منارةً للإيمان، شاهدةً على عطاء الأجيال وتعاقب الأزمان.
عندما طوى الاحتلال صفحة المسجد القديم سنة 1937، خُيِّل للناس أن صوت الأذان سيغيبُ عن سماء العرائش إلى الأبد، لكنّ ذاكرة التاريخ أقوى من كلِّ طغيان. وكما تنبتُ زهرةٌ من بين أنقاضٍ ذابلة، عاد جامع الأنوار ليرى النور مجددًا سنة 1957، فكان قيامُه رمزًا لانتصار الإرادة على معاول الهدم، وميلادًا جديدًا للأمل بعد ظلمات القهر.
في الصورة، يلوحُ للمُتأمِّلِ عناقُ الألوان الدافئة مع ظلال الماضي، وكأنّ الجدران تسترجعُ تفاصيل الأزمنة المتعاقبة. تُذكِّرنا التفاصيل المعمارية الشرقية الممزوجة بلمسةٍ مغربية أصيلة، بأنّ الهوية قد تَتلوّنُ وتتجدّد، لكنّ جوهرها لا يندثر أبدًا. وقد اتخذ المسجد اسم “مسجد الكويت” تكريمًا لمن ساهم في إعادة بنائه، ليُثبت أنّ الأيادي الممدودة بالعطاء لا تعرف حدودًا جغرافية ولا حواجز زمنية.
إنّ هذا الجامع، بقبّته الخضراء ومئذنته السامقة، يشهدُ كيف تتآلفُ الثقافات والأجيال في رِحاب الإيمان، وكيف يمكنُ لندوب الماضي أن تتحول إلى منابعِ عزيمةٍ وإصرار. فهنا حيثُ ارتفعَ صوتُ الحقّ بعد سنواتٍ من الصمت، تتجلّى صورةٌ حيّةٌ عن صمود المدن وأهلها، وعن خلود القيم في وجه التحوّلات. وما أشدّ ما يغمرُ القلب من حنينٍ ونشوةٍ حين ندرك أنّ النور قد عاد يسطعُ في مكانٍ ظنّه البعضُ قد أُطفِئ للأبد، فكان أبهى وأعمقَ أثرًا مما كان عليه يومًا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire