lundi 1 septembre 2025

مدينة العرائش والحرب الأهلية الإسبانية (1936–1939)





 العرائش بين تمرد 17 يوليو 1936 وذكراه في 1937

مدينة العرائش والحرب الأهلية الإسبانية (1936–1939)

الخلفية التاريخية لتمرد 17 يوليو 1936 ودور حامية العرائش

شهدت مدينة العرائش (شمال المغرب في منطقة الحماية الإسبانية) انطلاقة مبكرة لأحداث الحرب الأهلية الإسبانية. في مساء 17 يوليو 1936 بدأت وحدات الجيش الإسباني في محمية المغرب تمردًا عسكريًا ضد الجمهورية الإسبانية، بتخطيط من الجنرال إميليو مولا ومشاركة جنرالات آخرين بينهم فرانسيسكو فرانكو

. شكلت هذه التحركات البداية الفعلية للحرب، قبل يوم من اندلاعها في إسبانيا نفسها

. وقد اعتبر فرانكو لاحقًا منطقة المغرب “حجر الزاوية للانتصار” نظرًا لأهميتها الاستراتيجية في تأمين قواته وانطلاق حملته

. كانت منطقة المحمية الإسبانية بعيدة عن رقابة حكومة مدريد المدنية وتتركز فيها قوات نخبة مُجرِّبة (“جيش إفريقيا”)، مما جعلها أرضًا مثالية للمتآمرين العسكريين

في العرائش تحديدًا، تأخر إعلان التمرد ساعات عن باقي مدن المحمية. فقد بقيت المدينة آخر معقل مهم في المغرب الإسباني موالٍ لحكومة مدريد حتى فجر 18 يوليو

. عند الساعة الثانية صباحًا من ذلك اليوم، أعلن ضباط حامية العرائش انضمامهم إلى الانقلاب العسكري، فوقعت اشتباكات عنيفة بين المتمردين والقوات المحلية التي بقيت وفية للجمهورية

. تمركزت المقاومة الأساسية في مبنى البريد والبرق، حيث تحصن عدد من أفراد قوات الحرس المتحرك (Guardias de Asalto) الموالين للحكومة. وأثناء محاولة القوات المتمردة السيطرة على المبنى قُتل ضابطان إسبانيان يقودان الهجوم (الملازمان خاثوبو بوزا وفرانسيسكو رينوسو) برصاص المدافعين من داخل المبنى

. وبعد اشتداد القتال تمكن العسكريون المتمردون من اقتحام مبنى البريد مع طلوع الصباح، فعثروا على خمسة من حرس الحكومة وعدد من موظفي البريد وقاموا بتصفيتهم على الفور

. وبحلول صباح 18 يوليو 1936 كانت العرائش ساقطة بيد الانقلابيين؛ حيث اعتُقل أو أُعدم من تبقى من العسكريين الموالين للجمهورية، ولجأ آخرون إلى مناطق تحت السيطرة الفرنسية

. وقد بلغ الأمر بالحكومة الجمهورية أن أصدرت ظهر 17 يوليو أوامر للأسطول لمحاصرة موانئ سبتة والعرائش لمنع أي تعزيزات من العبور إلى إسبانيا

، مما يؤكد أهمية العرائش الاستراتيجية كميناء إمداد مبكر للانقلابيين. ورغم المقاومة المحدودة، سقطت المدينة في قبضة المتمردين الذين سارعوا إلى فرض الأحكام العرفية واعتقال المسؤولين الموالين للحكومة الشرعية

شكلت حادثة العرائش جزءًا من الرواية الدعائية للقوميين فيما بعد. فقد مجّد نظام فرانكو هؤلاء الضباط القتلى باعتبارهم أوائل “شهداء” الحركة الوطنية، وأُدرج إسما بوزا ورينوسو ضمن بطولات بانثيون (مقبرة الأبطال) الخاصة بمعسكر فرانكو

. وجرى تصوير سقوط العرائش كمثال على “تضحية” العسكريين الإسبان ومساندة بعض المغاربة للانقلاب، تمهيدًا للحملة الصليبية الوطنية التي ادّعى فرانكو أنها جاءت “لانقاذ إسبانيا” من الفوضى.

مظاهر إحياء ذكرى 17 يوليو 1937 في مدينة العرائش

مشهد لعدد من الشخصيات المغربية والإسبانية خلال استعراض عسكري عقب التمرد العسكري في المغرب (1936). يظهر تعاون السلطات الاستعمارية الإسبانية مع أعيان محليين بعد سيطرة فرانكو على المنطقة.

في الذكرى السنوية الأولى لاندلاع التمرد (يوليو 1937)، حرصت سلطات فرانكو في منطقة المغرب على تنظيم فعاليات احتفالية كبيرة لإبراز “أمجاد” الانقلاب الوطني. شهدت مدينة العرائش يوم 17 يوليو 1937 سلسلة من العروض والطقوس الاحتفالية بحضور عسكري وإداري رفيع. بدأت المراسم بإقامة قدّاس كاثوليكي رسمي في ساحة عامة تحت السماء المفتوحة، ترأسه أسقف كاثوليكي (بلقب أسقف غاليبولي) بحضور قيادات إسبانية عليا مثل الكولونيل توماس غارسيا فيغيراس والحاكم العسكري خوسيه ألفاريز ألاركون وغيرهما

. مثّل هذا القداس طابعًا شعائريًا ودينيًا لإضفاء شرعية روحية على الانقلاب، حيث اعتُبر “حربًا صليبية” ضد الشيوعية والإلحاد في خطاب فرانكو الدعائي.

أعقب المراسم الدينية تنظيم عروض عسكرية واستعراضات رمزية في شوارع العرائش. اصطفّت وحدات من الجيش الإسباني وميليشيا الكتائب الفرانكوية (الفالانج) جنبًا إلى جنب مع وحدات المخزن وقوات جيش إفريقيا من المتطوعين المغاربة، في مشهد يُظهر وحدة الصف تحت راية فرانكو. تقدمت المواكب عبر الشوارع المزينة بالأعلام والشعارات الوطنية، بينما تعلّقت على واجهات المباني لافتات ضخمة تحمل صورة فرانكو وتحيات مكتوبة للقائد “الجنراليسّيمو”

. وفي إحدى الساحات الرئيسية نُصبت منصة شرفية جلس عليها كبار الضباط الإسبان وإلى جانبهم الباشا محمد خالد الريسوني (باشا العرائش آنذاك) وعدد من أعيان المنطقة، ما أبرز تحالف السلطة الاستعمارية مع النخبة المحلية الموالية

. وتخلل الاستعراض أداء قسم الولاء للعلم الإسباني من قبل مجندين جدد، حيث ألقى الكولونيل غارسيا فيغيراس خطابًا أشاد فيه بـ“بطولات 17 يوليو” وتضحيات حامية العرائش التي “مهّدت الطريق لانتصار إسبانيا الجديدة”

. كما تم تكريم ذكرى الملازمَين بوزا ورينوسو خلال الحدث باعتبارهما “أبطالًا” سقطوا في الأيام الأولى، وأطلقت زخات من الطلقات تحيةً لأرواح “شهداء الحركة”

. واختُتمت الفعاليات بموكب جماهيري شارك فيه الأهالي الموالون، مع ترديد الأناشيد الوطنية وأناشيد الفالانج، ما حول المناسبة إلى استعراض دعائي يؤكد سيطرة سلطات فرانكو وروحها “الوطنية” في المدينة.

الدور العسكري والسياسي لمدينة العرائش خلال الحرب (1936–1939)

لعبت العرائش دورًا بارزًا كموقع استراتيجي في المجهود الحربي للقوات القومية خلال الحرب الأهلية الإسبانية. فمن الناحية العسكرية، كانت المدينة وقراها قاعدة خلفية مهمة لحشد ونقل قوات جيش إفريقيا. انطلقت منها ومن نواحيها كتائب عديدة من “الفيلق الإسباني” (الليجون الإسباني) ووحدات من الجنود المغاربة النظاميين (Regulares أو القوات “الإعتيادية” المحلية) للقتال في جبهات إسبانيا المختلفة

. كانت العرائش نفسها مقرًا لـالمجموعة الرابعة من قوات النظاميين التي حملت اسمها (Grupo de Regulares de Larache Nº4)، وهي وحدة مشاة قاتلت بشراسة ضمن جيش فرانكو وتحملت خسائر كبيرة

. هؤلاء الجنود المغاربة – الذين وصل عددهم الإجمالي إلى عشرات الآلاف – شكلوا عمادًا أساسيًا لقوات فرانكو في بدايات الحرب، واشتركوا في معارك حاسمة في جنوب إسبانيا وغربها

. وقد أشاد القوميون مرارًا بشجاعة “المغاربة” ووحشيتهم في القتال، مستخدمين ذلك كأداة دعائية لتخويف الجمهوريين من جهة، ولتمجيد “ولاء” المغرب لفرانكو من جهة أخرى. في الوقت نفسه، تظهر وثائق تاريخية أن بعض الشباب المغربي جُنّد قسرًا أو تطوع بدافع الفقر، وواجه رافضو التجنيد قمعًا شديدًا من السلطات الانقلابية

من الناحية اللوجستية، استخدمت العرائش كمحطة إمداد وتموين لنقل العتاد والمؤن بين إسبانيا والمغرب خلال الحرب. ميناء العرايش المطل على المحيط الأطلسي كان بمثابة منفذ بحري إضافي إلى جانب موانئ المتوسط (سبتة وتطوان) الخاضعة للقوميين. سيطر الانقلابيون على مستودعات الأسلحة والإمدادات العسكرية الضخمة التابعة لجيش الحماية في المنطقة، بما في ذلك ما وُجد في العرائش، ووظّفوها في دعم جبهاتهم

. حاولت البحرية الجمهورية فرض حصار بحري على ميناء العرائش في الأيام الأولى (مع حصار سبتة) لمنع نقل القوات والمعدات إلى إسبانيا

، إلا أن سيطرة القوميين على المطارات وطرق برية بديلة (عبر طنجة الدولية أحيانًا) والتدخل الألماني والإيطالي أحبط تلك المحاولات سريعًا. خلال الأسابيع التالية للانقلاب، نُقلت أعداد كبيرة من الجنود والسلاح من شمال المغرب إلى جنوب إسبانيا، سواء جوًا بواسطة طائرات نقل ألمانية (جسر جوي عبر مطار تطوان) أو بحرًا عبر مضيق جبل طارق. في هذا السياق، كانت العرائش واحدة من نقاط التجمع والعبور للقوات: تُشير السجلات إلى مرور وحدات من فيلق الجيش وفرق الرتل المغربي عبرها إلى جبهات الأندلس وما بعدها

إلى جانب ذلك، اكتسبت العرائش أهمية رمزية ودعائية خاصة لدى الجانب القومي خلال سنوات الحرب. فباعتبارها إحدى المدن التي انطلقت منها “شرارة الانقاذ الوطني” – وفق أدبيات فرانكو – حرصت السلطات على إظهار ولاء المدينة ودعم سكانها للمتمردين. زار جنرالات بارزون المدينة خلال الحرب لتعزيز معنويات القوات، من ضمنهم الجنرال لويس أورغاز يولدي (القائد العام لمغرب إسبانيا آنذاك) والعقيد خوان بيتشكبير (خوان بيغبيدير) المفوض السامي

. كما زارت شخصيات إسبانية مشهورة العرائش أثناء الحرب – مثل الفنانة إمبيريو أرجنتينا عام 1938 – في إطار حملات دعائية لرفع المعنويات

. ونُشرت في الصحف والنشرات القومية صور وتغطيات لاستعراضات العرائش، مرفقة بوصفها “مدينة وفاء للمجد الإسباني”. واستمر تنظيم الاحتفالات سنويًا كل 18 يوليو خلال الحرب وبعدها، وأُعيد تسمية بعض الشوارع والساحات تخليدًا لتلك المناسبة (مثلاً أطلق اسم “شارع الجنرال فرانكو” على شارع محمد الخامس خلال حقبة الحكم الإسباني) لإبراز هيمنة سردية “إسبانيا الجديدة” في الفضاء العام المحلي

في الختام، مثّلت مدينة العرائش خلال الحرب الأهلية الإسبانية نموذجًا مصغرًا لدور منطقة الحماية المغربية برمّتها في تلك الحرب. فإلى جانب كونها نقطة انطلاق للقوات والإمدادات، أصبحت رمزًا دعائيًا استخدمه فرانكو لتأكيد شرعية انقلابه وترسيخ أسطورته المؤسسة. وبينما ساهمت قوات العرائش في ترجيح كفة القوميين عسكريًا

، دفع بعض سكانها الثمن غاليًا من خلال القمع والإعدامات التي طالت المعارضين أو من اشتُبه في تعاطفهم مع الجمهورية

. وهكذا ظلت ذكرى 17 يوليو 1936 وما تلاها حاضرة في تاريخ العرائش الحديث، باعتبارها فصلًا مفصليًا ربط المدينة الصغيرة بواحدة من أعنف الفصول في تاريخ إسبانيا المعاصر.