lundi 21 avril 2025

أجساد مُراقبة وأحياء مُقيّدة: سياسات الضبط في وثيقة العرائش 1917



🎓 مقدمة العرض

تشكل مدينة العرائش واحدة من أعرق الحواضر المغربية التي عرفها التاريخ، فقد جمعت بين الموقع الجغرافي الاستراتيجي على المحيط الأطلسي، والتراكم الحضاري الممتد من العهد الفينيقي إلى العصر الحديث. وقد عرفت المدينة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحولات عميقة بفعل التغلغل الأوروبي، ثم فرض نظام الحماية الإسبانية ابتداء من 1911.

في مطلع القرن العشرين، أصبحت العرائش تحت إدارة إسبانية مباشرة، في إطار ما سمي بـالمنطقة الخليفية، حيث شُكّلت مجالس بلدية تضطلع بمهام التنظيم الحضري، مراقبة الأسواق، النظافة العامة، الصحة، وإدارة السكان بما يتوافق مع الرؤية الكولونيالية للنظام الحضري "الحديث".
كان لهذه المجالس دور محوري في إعادة رسم معالم المدينة، ليس فقط من حيث البناء والعمران، بل من حيث الضبط الاجتماعي والسياسي، بما في ذلك التحكم في أجساد السكان، وسلوكهم، وتنقلاتهم، بل وحتى في المجال الجنسي، كما تكشف عنه الوثيقة موضوع هذا العرض.

تُعد الوثائق الإدارية، كتلك الصادرة عن مجلس الأشغال البلدية بمدينة العرائش سنة 1917، مصدراً بالغ الأهمية لكتابة تاريخ المهمشين والمسكوت عنهم. فهي تسلط الضوء على الطبقات التي لا نجد لها صوتاً في الكتب الرسمية أو السرديات الكبرى: النساء في وضعية استغلال، الفئات الفقيرة، العاهرات، وحتى المرضى.
ومن خلال هذا النوع من الوثائق، يمكن للمؤرخ أن يعيد تشكيل "الحياة اليومية" في المدينة الاستعمارية، وأن يستقرئ العلاقات المعقدة بين السلطة والمجتمع، بين الدولة والجسد، بين القانون والأخلاق، وبين الطب كأداة رعاية وأداة ضبط.

إن الوثيقة التي بين أيدينا، وإن كانت إدارية وتقنية في ظاهرها، فإنها تفتح المجال أمام قراءة سوسيولوجية وأنثروبولوجية غنية، تكشف عن آليات الحكم والضبط الاجتماعي في مدينة العرائش خلال فترة دقيقة من تاريخها الاستعماري.

تُشكّل وثيقة مجلس الأشغال البلدية الصادرة بمدينة العرائش سنة 1917، حول ضبط عمل البغاءوتنظيم دور البغاء، واحدة من أندر الشهادات الإدارية التي تكشف عن أنماط السلطة الكولونيالية في تدبير المجال والجسد معًا.

فرغم ظاهرها القانوني التقني، تخفي هذه الوثيقة شبكة معقّدة من آليات الرقابة والتصنيف والإقصاء، تجعل منها مادة أساسية لقراءة السياسات الاستعمارية من منظور الحياة اليومية والسلطة الحيوية.

في هذه الوثيقة، لا يظهر الجسد الأنثوي بوصفه كيانًا إنسانيًا، بل كموضوع قانوني وإداري، يخضع للتسجيل، الفحص، التوثيق، والمراقبة. تُجبر النساء على تقديم صورهن، تُقيّدن في دفاتر رسمية، وتُمنحن تصاريح للعمل الجنسي مقابل الخضوع الطبي والانضباط المكاني. في الوقت نفسه، تُحوّل أحياء بكاملها إلى فضاءات مقيّدة الحركة والمعنى، لا تُدار إلا عبر الرخص والإغلاق والضبط.

ومن خلال هذا النص القانوني، سنحاول تفكيك الأنساق السوسيو-قانونية التي تؤطر الوجود الأنثوي في الفضاء الاستعماري، والبحث في كيفيات اشتغال السلطة على ما هو حميمي ومقصي في آن، في محاولة لكتابة تاريخ من تحت، يُنصت للمنسي، ويستعيد أثره في أرشيف السلطة ذاتها.


🕰️ المحور الأول: السياق التاريخي والسياسي (1906–1920)

🔹 1. معاهدة الجزيرة الخضراء 1906 وبداية التدخل الإسباني في شمال المغرب

في مطلع القرن العشرين، كانت القوى الاستعمارية الكبرى تتنازع على النفوذ داخل المغرب. وجاءت مؤتمر الجزيرة الخضراء سنة 1906 تتويجًا لهذا الصراع، حيث اجتمعت القوى الأوروبية لتقاسم النفوذ في البلاد، بحضور شكلي للسلطان المغربي.
ورغم أن المعاهدة أقرت بضرورة الحفاظ على "استقلال المغرب"، فإنها أرست فعليًا قواعد التدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية، خاصة في ما يتعلق بالمالية، الشرطة، وإصلاح الإدارة.

بالنسبة لإسبانيا، كانت هذه الاتفاقية بمثابة الشرعية الدولية للتوسع شمالاً، في إطار ما سيُعرف لاحقًا بـ"المنطقة الخليفية". وهكذا، بدأت الهيمنة الإسبانية على مدن الريف والمحيط الأطلسي الشمالي: تطوان، الشاون، العرائش، القصر الكبير...


🔹 2. تأسيس المجالس البلدية كأداة استعمارية لضبط السكان

ضمن هذا الإطار الاستعماري، تم إحداث مجالس بلدية تحت إشراف مباشر من الإدارة الإسبانية، تتولى تنظيم الشؤون اليومية للسكان.
هذه المجالس لم تكن فقط مؤسسات خدمية، بل أدوات ضبط إداري وأمني واجتماعي، تهدف إلى:

مراقبة البناء والتخطيط العمراني.
تنظيم الأسواق والمعاملات التجارية.
الإشراف على الصحة العامة والوقاية من الأوبئة.
فرض قوانين على المهن، التنقل، وحتى على ممارسات الحياة الخاصة.

وتأتي وثيقة "ضابط عمل البناء" بمدينة العرائش لسنة 1917 كجزء من هذا المشروع السلطوي الشامل، حيث يتداخل فيه القانون، الطب، الأخلاق، والعنف الرمزي والإداري.


🔹 3. العرائش كمدينة ساحلية استراتيجية

تعتبر العرائش من أقدم المدن الساحلية المغربية ذات الموقع الجيو-استراتيجي الهام. فهي تطل على المحيط الأطلسي، وتتحكم في مصب نهر اللكوس، ما جعلها عبر العصور مركزًا للتجارة والمراقبة البحرية، ومسرحًا لمواجهات كبرى، من البرتغاليين إلى الإسبان.

مع بداية القرن العشرين، شهدت المدينة تحولات عمرانية عميقة:

تشييد أحياء جديدة لإقامة الإسبان والإداريين.
إدخال شبكات الماء، الصرف الصحي، والإنارة.
تنظيم الأسواق والأماكن العمومية وفق النمط الأوروبي.

لكن هذا "التحديث" كان انتقائيًا، يستهدف بالأساس المناطق التي يسكنها المستعمرون أو تخدم مصالحهم، بينما ظل الحي المغربي التقليدي (المدينة العتيقة) يعاني التهميش وسوء البنية التحتية.


📜 المحور الثاني: تحليل بنية الوثيقة القانونية لسنة 1917

🔸 1. صورة الغلاف والعناصر الرمزية

الغلاف الأصلي للوثيقة، كما يظهر في الصورة، يحمل عنوانًا واضحًا:

"مجلس الأشغال البلدية – ضابط عمل البناء بمدينة العرائش – سنة 1917"


يظهر في أعلى الغلاف رمز النجمة السداسية، والذي يُحتمل أنه كان يُستعمل كشعار إداري رسمي آنذاك، قبل أن يُرتبط لاحقًا بمفاهيم دينية أو سياسية.
في الأسفل، نجد ذكرًا لـ "مطبعة ليبركة – العرائش"، وهي واحدة من أقدم المطابع المحلية التي لعبت دورًا في طبع الوثائق الإدارية زمن الحماية الإسبانية.

تشير هذه العناصر الرمزية إلى الطابع الرسمي والإداري الوثيق للوثيقة، وإلى ارتباطها بمؤسسة بلدية منظمة، تشرف عليها سلطات استعمارية بشكل مباشر.


🔸 2. تقسيم الأبواب الستة ومضامينها

تنقسم الوثيقة إلى ستة أبواب، كل باب يحتوي على فصول قانونية تفصيلية. إليك عرضًا لمضامين كل باب، مع مقتطف مختار:

✅ الباب الأول: حفظ الصحة الخصوصي

يعالج شروط النظافة والفحص الطبي الإجباري للعاهرات.

مقتطف: "يجب على الأطباء المأذونين أن يعينوا يوماً للفحص الأسبوعي لجميع النسوة المرخص لهن في البيوت، وإثبات حالة كل واحدة منهن في دفتر خاص."


✅ الباب الثاني: الأماكن المعدّة لسكنى العاهرات

يشترط ترخيصًا خاصًا لتشغيل أي دار بغاء.

مقتطف: "لا يجوز فتح محلّ لتسكين العاهرات إلا برخصة خطّية من المجلس البلدي، بعد المعاينة وموافقة الطبيب الرسمي."


✅ الباب الثالث: التصاريح والتفاسيد

يركز على تسجيل كل عاهرة في السجلات البلدية، مع صورة فوتوغرافية.

مقتطف: "على كل عاهرة أن تقدم صورتها الشمسية، وتقيّد في سجل مخصوص لدى المخزن."


✅ الباب الرابع: ملازم ربّات الدور والعاهرات

تفصيل في الواجبات اليومية والانضباط الداخلي.

مقتطف: "يمنع على ربة الدار أن تسمح بخروج العاهرات ليلاً إلا برخصة، وتتحمل مسؤولية كل مخالفة."


✅ الباب الخامس: أحكام عامة

ضوابط متنوعة، منها ساعات العمل المسموح بها.

مقتطف: "يجب إغلاق الأبواب بعد الساعة الواحدة ليلاً، ويمنع بيع الماحيا أو الخمر في هذه الأمكنة."


✅ الباب السادس: المخالفات والغرامات

لوائح تفصيلية للغرامات المفروضة.

مقتطف: "كل مخالفة للفصول المذكورة تُعاقب بغرامة تبدأ من 25 بسيطة، وقد تصل إلى 100، مع احتمال سحب الرخصة."



🔸 3. نموذج مهم: الفصل العاشر

الفصل 10: "لا يُرخّص في تسجيل البنات دون الخامسة والعشرين من العمر، ويمنع مطلقًا استعمال الصبايا أو القاصرات في هذا الشغل، ولو برضاهن."


⚠️ هذا الفصل يُبرز بعدًا مهمًا في الوثيقة، يتمثل في محاولة ظاهرية "لحماية" القاصرات، لكن ضمن إطار يُضفي شرعية قانونية على البغاء، ما يكشف تناقضات الخطاب الاستعماري بين "الضبط الأخلاقي" والتقنين الاقتصادي للجسد.


🔸 4. تحليل اللغة: البيروقراطية الهجينة

لغة الوثيقة عبارة عن عربية بيروقراطية هجينة، تتسم بما يلي:

استخدام مصطلحات إدارية مقتبسة من اللغة العثمانية والفرنسية (مثل: "رخصة"، "دفتر مخصوص"، "تفاسيد").
جُمَل طويلة، تتخللها عبارات قانونية مثل "يمنع مطلقًا"، "كل من خالف"، "تُفرض عليه".
تغليب الطابع التنفيذي – لا خطاب أخلاقي مباشر بل أوامر وقواعد تقنية.

هذا النمط من اللغة يعكس:

التأثر بالإدارة العثمانية القديمة.
التأقلم مع قواعد الإدارة الإسبانية الحديثة.
غياب أي إشارات دينية أو مرجعية فقهية، ما يدل على العلمنة القانونية للمجال.

🔸 5. مقارنة مع وثائق مماثلة بتطوان أو طنجة



وثائق مماثلة وُجدت في تطوان (كمقر إداري للمنطقة الخليفية) حملت الطابع ذاته من حيث تقسيم الأبواب والفصول، خاصة في ما يخص:

تنظيم المهن.
الصحة العامة.
ضبط الأسواق.
في طنجة الدولية، كانت الوثائق أكثر تعقيدًا بسبب تعدد المرجعيات القانونية (فرنسية، إنجليزية، مغربية). لكنها تشترك في إدراج نظام مراقبة صارم للبغاء.

⚖️ المحور الثالث: البغاء كسياسة عمومية في العرائش الاستعمارية

🔹 1. من التجريم إلى التقنين: البغاء في نظر السلطة

خلافًا للمنظور الأخلاقي والديني السائد، والذي يُجرّم البغاء بوصفه انحرافًا أخلاقيًا أو سلوكًا منحطًا، تعاملت السلطة الاستعمارية بمدينة العرائش مع الظاهرة من زاوية إدارية وتقنية صِرفة، واعتبرتها مجالًا يجب تنظيمه وضبطه، لا محاربته أو محوه.

ففي ظل منطق الهيمنة الكولونيالية، لم يكن الهدف من التدخل في مجال البغاء هو القضاء عليه، بل احتواؤه وجعله مرئيًا ومُراقَبًا عبر الترخيص، التقييد، الفحص الطبي، وتحديد الزمان والمكان.

وهكذا، تحوّل البغاء من "ممارسة في الظل" إلى نشاط مشروع قانونًا، لكنه خاضع لإجراءات دقيقة، تشبه إلى حدّ بعيد تنظيم الحرف والمهن.


🔹 2. تسليع الجسد وتنظيمه ضمن اقتصاد مدني–صحي

تكشف الوثيقة أن البغاء لم يكن فقط ظاهرة اجتماعية، بل أصبح جزءًا من النسيج الاقتصادي الحضري، إذ:

استُعمل الجسد الأنثوي كمورد خاضع للتنظيم والتصنيف.
أُدرج ضمن ما يُشبه "الاقتصاد الخدمي"، يخضع للعرض والطلب، لكنه مشروط بالانضباط والنظافة.
رُبط بالأطباء، وبالسجلات، وبالأداء الضريبي، مما يدل على إدماجه في دورة مالية شبه رسمية.

بل إنّ تقنينه ضمن أحياء معينة وتحت إشراف مباشر من الطبيب والسلطة البلدية، يجعل من المدينة الاستعمارية فضاءً تُمارس فيه السلطة ليس فقط على الأرض والعمران، بل أيضًا على الجسد والرغبة.


🔹 3. البغاء كمورد اقتصادي خفي ومجال توتر ديني–سياسي

رغم أن الوثيقة لا تتطرق صراحة إلى الجانب المالي، إلا أن:

الغرامات الواردة في الباب السادس تشير إلى نظام مالي ضمني.
الترخيص ذاته كان يتم بمقابل مالي، ما يدر مداخيل للمجلس البلدي.
البغاء كان يخدم حاجة جيوسياسية: وجود الجنود، التجار، والإداريين الإسبان، جعل من ترخيصه ضرورة "عملية".

لكن هذا التقنين الاستعماري كان في تناقض صارخ مع التصورات الدينية والأخلاقية المحلية، خصوصًا في بيئة محافظة كمدينة العرائش، حيث شكل البغاء نقطة توتر مستمر بين "الحداثة الإدارية" و"المرجعية الإسلامية".

الوثيقة لا تذكر أي إحالة إلى الأعراف أو الشريعة، ما يؤكد انفصال السلطة الاستعمارية عن التصور المحلي للقيم.


🔹 4. منطق "الصحة مقابل الترخيص"

من أبرز الملاحظات في الوثيقة هو تبنّي سياسة تعتمد على المقايضة بين الصحة والترخيص:

يسمح للمرأة بممارسة البغاء فقط إذا كانت بصحة جيدة.
يخضع جسدها لفحوص دورية، وعلى الطبيب أن يسجّل حالتها في دفتر خاص.
في حالة وجود مرض، تُمنع من العمل مؤقتًا أو تُطرد نهائيًا.

هذا الربط بين "سلامة الجسد" و"شرعية العمل" يكشف من جهة عن قلق السلطة من انتشار الأمراض الجنسية، لكنه يُخفي أيضًا نظرة تقنية للجسد كأداة إنتاج يجب أن تظل فعالة ونظيفة ومراقَبة.

يمكن تلخيص هذه المقاربة في معادلة استعمارية:

"ما دمتِ سليمة طبيًا، فأنتِ صالحة للعمل."



🧠 خاتمة المحور

البغاء في وثيقة العرائش لسنة 1917 ليس ظاهرة عفوية ولا هوامش قانونية، بل هو سياسة عمومية مدروسة، تُبرز كيف تمارس السلطة الاستعمارية نفوذها من خلال تنظيم ما هو حميمي، وما هو مُدان أخلاقيًا، وتسخّره في خدمة المشروع الكولونيالي.


🧪 المحور الرابع: الطب والشرطة والحكم الأخلاقي

تشير وثيقة سنة 1917 بوضوح إلى تقاطع ثلاث سلطات في تنظيم البغاء بمدينة العرائش: السلطة الطبية، السلطة الأمنية، والسلطة الإدارية، مما أسفر عن خلق منظومة رقابة متعددة الأذرع تشتغل على الجسد الأنثوي كموقع للمراقبة والتأديب.


🔹 1. الطبيب كمفتّش أخلاقي

في ظل الغطاء الإداري، مارس الطبيب دورًا يتجاوز الوظيفة العلاجية، ليصبح أشبه بـمفتّش أخلاقي وقضائي:

يُجري فحوصًا أسبوعية لجميع النساء المرخّص لهن.
يُلزم بملء دفتر خاص يسجّل فيه الحالات بدقة.
لديه السلطة لتقرير ما إذا كانت المرأة "صالحة" للاستمرار في العمل.

وبذلك، تتحول العاهرة إلى ملف طبي–إداري تتحكم فيه تقييمات الطبيب، مما يُعلي من مكانته داخل المنظومة الرقابية، ويجعل من ممارسته "الحيادية" للطب، أداة حكم وأخلاق.


🔹 2. الجسد السليم = نشاط مشروع

تؤسس الوثيقة لمنطق استعماري يجعل من سلامة الجسد شرطًا أساسًا لمشروعية الممارسة:

كل امرأة مصابة بمرض جنسي تُمنع فورًا من الاشتغال.
لا يُسمح لها بالعودة إلا بعد تصريح طبي يؤكد شفاءها.
بذلك، تُختزل أهليتها في وظيفتها الجنسية–الاقتصادية.

هذا الربط بين الصحة والعمل يُحول الجسد إلى رأسمال بيولوجي، يخضع للتقييم الطبي المنتظم كما تخضع السلع للفحص قبل التداول.


🔹 3. الشرطة الصحية: سلطة مزدوجة

لا تقتصر المراقبة على الأطباء فقط، بل تتدخل الشرطة الصحية كمؤسسة ذات طابع مزدوج:

أمني: إذ تسهر على تنفيذ العقوبات والغرامات، ومراقبة الحركات.
طبي: حيث تُكلف بتتبّع تقارير الأطباء، وإغلاق الدور في حال المخالفة.

بهذا الدور الهجين، تتجلى السلطة الاستعمارية في أبهى صورها: علمية في الظاهر، قمعية في الجوهر.


🔹 4. التصوير الإجباري للنساء: توثيق الجسد والهوية الجنسية

من بين الفصول اللافتة في الوثيقة: إجبار النساء على تقديم صورة فوتوغرافية تُضاف إلى سجلات البلدية.

"على كل عاهرة أن تقدم صورتها الشمسية، وتقيّد في سجل مخصوص لدى المخزن."


هذا الإجراء يتجاوز البعد الإداري إلى مستوى التحكّم في الهوية:

التصوير يُحوّل الجسد إلى وثيقة.
الوجه والجسم يُحوَّلان إلى أرشيف مرئي، قابل للمراجعة والرقابة.
بذلك، يصبح وجود المرأة في المجال العام مرهونًا باعتراف الدولة بصورتها ووظيفتها الجنسية.

📌 استنتاج المحور

يشكّل هذا التداخل بين الطب والشرطة والإدارة نموذجًا لما وصفه فوكو بـ"السلطة الحيوية" (biopouvoir)، حيث تُمارس السلطة عبر المعرفة الطبية، وتُشرعن تدخلها من خلال مصلحة الصحة العامة، بينما الهدف الحقيقي هو التحكم في الأجساد وتنظيم الرغبات، وفق منطق استعماري مهيمن.


📉 المحور الخامس: العقوبات والتأديب

قراءة تحليلية دقيقة


🔹 أولًا: الغرامات المقنّنة بدقة في الفصل 18 (بين 25 و100 بسيطة)

📌 النص القانوني ينص على:

"كل مخالفة للفصول المذكورة تُعاقب بغرامة تبدأ من 25 بسيطة وتصل إلى 100 بسيطة، حسب جسامة الفعل المرتكب."


🧠 التحليل:

هذا الفصل يُمثّل بُعدًا ماليًا ردعيًا، يُظهر كيف أن السلطة كانت تسعى للضبط من خلال الرأسمال المالي.
25 بسيطة كانت تُعادل أجرة يومية أو أكثر لفرد عادي، مما يجعل الغرامة مرهقة فعليًا لنساء يعشن على الهامش.
الغرامة تتفاوت حسب درجة المخالفة، ما يعكس منطقًا يشبه الجنح المدنية الحديثة.
هذا النظام يؤسس لوجود اقتصاد تأديبي، حيث تتحول المخالفة إلى دخل بلدي (عبر أداء الغرامة)، مما يجعل من الجهاز البلدي مستفيدًا من كل تجاوز.

🔹 ثانيًا: الطرد النهائي من العمل في حالة التكرار (الفصل 21)

📌 النص القانوني:

"من ثبت تكراره للمخالفة بعد إنذاره يُمنع نهائيًا من مزاولة النشاط، وتُسحب منه الرخصة."


🧠 التحليل:

نمر هنا من الغرامة إلى العقوبة الإدارية القَطعية، وهي الطرد.
هذه الصيغة العقابية تترجم منطقًا بيروقراطيًا صارمًا، حيث لا يُؤخذ بعين الاعتبار السياق الاجتماعي أو الإكراهات.
الطرد لا يعني فقط فقدان "العمل"، بل يعني فقدان الحماية القانونية، ما يعرض المرأة للطرد من الدار، أو الدخول في ممارسة سرية محفوفة بالخطر.
هذه العقوبة تجعل من المجلس البلدي صاحب سلطة تشريعية وتنفيذية في آن، دون رقابة قضائية.

🔹 ثالثًا: إسقاط الترخيص وإغلاق المحل (الفصل 22)

📌 النص القانوني:

"كل دار ثبت تشغيلها لعاهرات غير مسجلات، أو ثبت فيها تجاوز للمراقبة الطبية، تُغلق فورًا ويُسحب ترخيصها."


🧠 التحليل:

السلطة هنا تعاقب المؤسسة، لا فقط الأفراد.
هذا يُظهر وجود تصور للمجال كعنصر يُمكن تطهيره عبر الإغلاق، في ما يشبه العزل الحضري.
إسقاط الرخصة لا يعاقب فقط صاحبة المحل، بل أيضًا النساء العاملات فيه، ما يعمّق من الهشاشة الجماعية.
يتداخل هنا البعد العقابي المكاني: العقوبة لا تطال الفرد بل تطال المكان نفسه، وتُنزع عنه "الشرعية القانونية".

🔹 رابعًا: التهجير المحتمل من المدينة (غير مصرح به صراحة لكن ممكن استنتاجه)

📌 رغم غياب ذكر صريح له في الوثيقة، إلا أن التهجير كان ممارسة قائمة على أرض الواقع، خصوصًا في حالات مكررة أو مرضية.

🧠 التحليل:

التهجير يشكل أقصى درجات العقوبة، فهو عقوبة بالجسد والمكان والانتماء.
يُمارس كنوع من التطهير الرمزي، ويحوّل العاهرة من "كائن مُنظم" إلى "عنصر غير مرغوب فيه".
يُمارس التهجير في صمت، خارج الوثيقة، ما يجعل منه عقوبة غير موثقة لكنها نافذة، وهذا ما يُبرز فجوة بين النص القانوني والممارسة الميدانية.

📊 جدول موجز للعقوبات والفصول المرتبطة بها
رقم الفصلنوع المخالفةالعقوبة
18مخالفة الإجراءات الصحيةغرامة بين 25 و100 بسيطة
19إدخال نساء غير مرخّص لهنغرامة + إنذار كتابي
20عدم احترام أوقات الإغلاقغرامة + توقيف مؤقت
21تكرار المخالفات بعد إنذار سابقالطرد النهائي + سحب الترخيص
22تشغيل غير المسجلات، أو مخالفة طبية جسيمةإغلاق المحل الفوري + سحب الترخيص
غير مذكورالمخالفات المتكررة مع سوابق مرضية أو خرق أخلاقيالتهجير من المدينة أو المنع من الإقامة

🧠 استنتاج المحور:

العقوبات لا تُمارَس فقط على مستوى الغرامة أو الطرد، بل تمثّل نظامًا تأديبيًا متكاملًا يجمع بين:

  • الردع المالي.

  • الإقصاء الاجتماعي.

  • العقوبة المكانية (إغلاق/طرد).

  • والتصفية الإدارية للهوية (سحب الترخيص، حذف الاسم من السجلات).

إنها منظومة تشتغل على الفرد والمكان والسجل، بما يجعلها إحدى أوجه الدولة التأديبية في نسختها الكولونيالية.


🧩 المحور السادس: دلالات الوثيقة في كتابة تاريخ جديد


🔹 1. أهمية الوثيقة في كتابة "تاريخ من تحت" (micro-history)

رغم أن الوثيقة موضوع العرض هي نص قانوني إداري، إلا أنها تحمل مفتاحًا لفهم يوميات الحياة الاجتماعية في مدينة استعمارية مثل العرائش. فهي تفتح للباحث نافذة نادرة على عالم منسي، أنثوي، هش، ومسحوق.
وبدل أن تكتفي بإبراز القرارات الكبرى أو الوقائع السياسية، فإنها تكشف عن:

  • علاقات السلطة اليومية.

  • أشكال الضبط الجسدي والرمزي.

  • الآليات الدقيقة التي تمارس بها الدولة رقابتها على السكان.

بهذا المعنى، تُعد الوثيقة نموذجًا مثاليًا لمقاربة التاريخ من الأسفل، حيث تصبح الهامشية مركزًا، والمهمَّش فاعلًا غائبًا يجب استنطاق أثره.


🔹 2. كيف يمكن للباحث أن يعيد بناء حياة نساء مجهولات من نص قانوني؟

رغم غياب الأسماء، والسرديات الذاتية، إلا أن النص القانوني يمنح مؤرخًا نبيهًا الأدوات لإعادة بناء:

  • بنية الحياة اليومية للعاهرات: توقيت العمل، شروط السكن، المراقبة الصحية.

  • العلاقات بين العاهرات وربّات الدور، والمجلس البلدي، والأطباء.

  • أنماط الطرد والتأديب، والطرق التي كانت تُقصى بها هؤلاء النسوة من المجال العام.

إنها سيرة جماعية غير مكتوبة، يمكن فكّ شيفراتها من خلال المادة القانونية، كما لو أن النص الإداري يقف فوق أطلال قصص لم تُروَ.


🔹 3. العلاقة بين العمران والسياسة الجنسية في المدينة المستعمرة

الوثيقة لا تتحدث عن الجنس فقط، بل ترسم خريطة جنسية للمدينة:

  • تخصيص أحياء معينة للبغاء المرخص.

  • ضبط المجال الحي وتحديد من يحق له الدخول أو لا.

  • جعل المكان نفسه خاضعًا للرخصة والمراقبة (وليس فقط الأفراد).

إنها سياسة تقوم على "تدبير الرغبة داخل الحيز الحضري"، ما يكشف عن تداخل شديد بين المجال الجنسي والمجال العمراني.

الدار لا تُعتبر فقط فضاء خاصًا، بل مؤسسة اقتصادية–صحية–أمنية مصغّرة، تخضع لنفس منطق تنظيم الأسواق والمجازر والحمامات، ما يرسّخ البُعد الإداري للجسد والمكان في آن.


🔹 4. دعوة لإعادة أرشفة التاريخ الاجتماعي المحلي بعيدًا عن الرواية الرسمية

غالبًا ما تختزل الرواية الرسمية تاريخ العرائش في المعارك، التحصينات، والرجالات البارزين.
لكن وثيقة كهذه تُجبرنا على الاعتراف بأن التاريخ ليس فقط ما جرى في القلاع والساحات، بل أيضًا ما حدث في الأزقة المظلمة، وفي البيوت الصامتة، وفي أجساد النساء التي رُقّمت وقُيّدت وصُوّرت.

إنها دعوة لإعادة كتابة تاريخ العرائش من منظور الضعفاء، والمنسيين، والمُسجّلين لا كأسماء بل كأرقام.

وتقودنا الوثيقة إلى طرح أسئلة أبعد:

  • من له الحق في أن يُكتب تاريخه؟

  • من يملك الأرشيف؟

  • وهل بإمكان الباحث تحويل وثيقة رقابة إلى أداة تفكيك سلطوي وأداة إنصاف تاريخي؟

 

📚 خاتمة: نحو أرشفة ذاكرة العرائش المهمّشة

تكشف وثيقة مجلس الأشغال البلدية لسنة 1917 بمدينة العرائش عن نسيج خفي من التداخل بين السلطة، الجسد، والمجال الحضري، تشتغل فيه الدولة الكولونيالية عبر أدوات الضبط والتنظيم، ليس فقط من خلال العمران والبنية التحتية، بل عبر إدارة الأجساد وتنظيم الرغبات، ضمن منظومة تراتبية تشمل الطبيب، الشرطي، الإداري، والمُراقِب الأخلاقي.

هذه الوثيقة، رغم طابعها القانوني الجاف، تُتيح لنا قراءة "تاريخ من لا تاريخ لهم"، واستعادة تفاصيل حياة نساء وفضاءات وممارسات ظلّت لزمن طويل في هامش السرديات الرسمية.

📎 من هنا، تبرز ثلاث دعوات ضرورية:

  1. رقمنة هذا النوع من الوثائق وجمعها في أرشيف مفتوح أمام الباحثين والمؤرخين، ليس فقط من أجل حفظها، بل لإعادة التفكير في وظائف الأرشيف ذاته: من كونه مخزنًا للسلطة إلى كونه مصدرًا لإعادة الإنصاف الرمزي للمقصيين.

  2. إدماج الوثائق الإدارية في مقاربات العلوم الاجتماعية، حيث يمكن أن تصبح قاعدة لتحليل السلوك اليومي، البناء الرمزي للهوية، وآليات السلطة الدقيقة.

  3. تشجيع مشاريع بحثية عابرة للتخصصات، تجمع بين التاريخ، علم الاجتماع الحضري، الدراسات الجندرية، والأنتروبولوجيا، بهدف كتابة تاريخ لا مركزي، تعددي، وإنساني يعيد الحياة لصوت من لا صوت لهم.


إن ما تخفيه هذه الوثيقة من معانٍ أعمق مما تُظهره فصولها. هي ليست فقط قوانين لتنظيم البغاء، بل هي مرآة لنظام حكم، لمدينة استعمارية، ولمجتمع يتحرك في الظل.
وأرشفتها لا تعني فقط حفظها، بل
استعادتها كتاريخ، وكعدالة، وكذاكرة لا ينبغي أن تُنسى.










Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire