jeudi 24 avril 2025

الخضر غيلان: سيرة وتاريخ مقاومته ومعركة العرائش في القرن السابع عشر

الخضر غيلان: سيرة وتاريخ مقاومته ومعركة العرائش في القرن السابع عشر

مقدمة

يُعتبَر الخضر غيلان أبو العباس أحمد الخضر غيلان، ت 1084هـ/1673م أحد أبرز قادة المقاومة المغربية في القرن السابع عشر، حيث خاض مواجهات ضارية ضد القوى الاستعمارية الأوروبية – البرتغالية والإسبانية ثم الإنجليزية – التي احتلت أجزاءً من شمال المغرب خلال تلك الفترة .تولّى الخضر غيلان قيادة حركة الجهاد في بلاد الهبط الشمال الغربي للمغرب عقب وفاة المجاهد سيدي محمد العياشي عام 1641م، وتمكّن من بسط نفوذه على مدن مهمة مثل القصر الكبير وأصيلا وتطوان .اشتهر بشجاعته وحنكته العسكرية وصلابته؛ حتى أن المصادر الأوروبية وصفته بأنه رجل «شجاع حادّ البصر وقاسي الطبع، شديد الكتمان لا يُفصح عن نواياه .ركّز الخضر غيلان جهوده خصوصًا على تحرير مدينة العرائش من الاحتلال الإسباني، وقاد عدة هجمات وحصارات على هذه القاعدة الاستعمارية خلال عقدي 1650م و1660م. فيما يلي نستعرض تسلسلًا زمنيًا لأبرز محطات حياته العسكرية والسياسية، مع تسليط الضوء على معركة العرائش الشهيرة وتكتيكات المقاومة المغربية، إلى جانب استعراض المصادر التاريخية والأكاديمية حول شخصيته، ووثائق الأرشيف المعاصرة المتعلقة به وبمعركة العرائش، ثم تمثلاته في الأدب والفن الأوروبي، وأخيرًا أثره في الذاكرة الشعبية المغربية والإسبانية.

الخلفية التاريخية: سياق احتلال العرائش

احتل الإسبان مدينة العرائش Larache الواقعة عند مصب نهر اللكوس على المحيط الأطلسي منذ مطلع القرن السابع عشر. فبعد محاولات فاشلة عديدة من البرتغاليين والإسبان للسيطرة عليها في القرون السابقة، تمكن الإسبان من الاستيلاء على العرائش سنة 1610م. جاء ذلك في سياق اضطرابات داخلية في المغرب إثر ضعف الدولة السعدية بعد وفاة السلطان أحمد المنصور الذهبي 1603م، حيث قام أحد أمراء السعديين مولاي الشيخ بتسليم العرائش للإسبان مقابل مساعدتهم له في الصراع على العرش .بقيت العرائش تحت الحكم الإسباني لنحو ثمانين عامًا 1610–1689م، لكنها لم تكن مستعمرة مأهولة بكثافة من قبلهم، بل استخدمها الإسبان أساسًا كقاعدة عسكرية وميناء للتجارة والإمداد على الساحل المغربي.كانت العرائش تتمتع بموقع استراتيجي مهم، إذ تشرف على طرق الملاحة الأطلسية وقريبة من المراكز المغربية الحيوية كالقصر الكبير وفاس. كما شكّلت معاقل أوروبية أخرى في المنطقة – مثل أصيلة أرزيلة وطنجة وسبتة – تهديدًا مستمرًا، مما جعل العرائش هدفًا لحركة الجهاد والمقاومة المغربية في القرن السابع عشر.

شهدت العقود الوسطى من القرن 17م اضطرابًا سياسيًا كبيرًا في المغرب مع انهيار سلطة الدولة المركزية وظهور قوى محلية متنافسة. برزت في تلك المرحلة كيانات مستقلة في الشمال مثل إمارة آل النقسيس في تطوان وإمارة الخضر غيلان في مناطق العرائش وطنجة. وقد اتخذ الخضر غيلان من فكرة الجهاد ضد المحتل الأوروبي شعارًا لتوحيد القبائل تحت رايته، مستغلًا النقمة الشعبية على الوجود الإسباني والبرتغالي. ضمن هذا السياق، أصبحت العرائش رمزًا للمقاومة باعتبارها أبرز الثغور المغربية المحتلة من طرف الإسبان آنذاك. ومع أن محاولات المغاربة السابقة لاستعادة العرائش في عهد المجاهد العياشي مثلاً لم يُكتب لها النجاح، فإن ظهور الخضر غيلان بقيادته القوية أعاد الأمل في تحرير المدينة. لذلك، كانت معركة العرائش وحصارها محطة محورية ضمن سلسلة مواجهات شهدتها المنطقة بين المغاربة والإسبان في النصف الثاني من القرن السابع عشر.

النشأة والصعود إلى الصدارة

أصل الخضر غيلان وأسرته: ينحدر الخضر غيلان من أسرة أندلسية عريقة وفدت إلى المغرب. فبعد سقوط غرناطة، نزح أفراد عائلة غيلان من الأندلس واستقروا بين قبائل جبالة في شمال المغرب ، ولا سيما في قبيلة بني كرفط بمنطقة الهبط. استوطنت الأسرة قرى مثل الصخرة والخطوط ودار القرمود، وكانت لها بيوتات أيضًا في مدن طنجة وتطوان وأصيلا وتازة. عُرفت أسرة غيلان بانتسابها إلى الشرفاء وبأنها أسست زاوية صوفية زاوية أولاد غيلان ، مما منحها مكانة روحية واجتماعية محترمة في المنطقة. وُلد الخضر في قرية مدشر الزرق في جبال بني كرفط ونشأ في ظل هذه الأسرة التي تجمع بين الإرث الأندلسي والنفوذ الديني المحلي. ساعدته أصوله الموريسكية الشريفة وصلاته القبلية على كسب ولاء كثير من القبائل الشمالية لاحقًا عندما انتقل إلى قيادة حركة المقاومة.

ارتباطه بحركة العياشي: مع تصاعد الأخطار الاستعمارية في مطلع القرن 17م، برز القائد سيدي محمد العياشي 1600–1641م كأحد قادة الجهاد ضد البرتغاليين والإسبان في منطقة الساحل الأطلسي والشمال الغربي. التحق الخضر غيلان بالمجاهد العياشي خلال شبابه، وأثبت كفاءة وولاء كبيرين. وتشير المصادر إلى أن العياشي نفسه عيّن الخضر غيلان قائدًا على حركة الجهاد في بلاد الهبط منطقة اللوكوس . لكن هذه الحركة واجهت صعوبات كبيرة بعد مقتل العياشي سنة 1641م اغتيل على يد منافسين محليين. في تلك الأثناء كانت الزاوية الدلائية بقيادة محمد الحاج الدلائي قد بسطت نفوذها على أجزاء واسعة من المغرب مستغلة الفراغ السياسي، بما في ذلك مناطق الشمال. غير أن الخضر غيلان سارع إلى ملء فراغ القيادة في جبهة الجهاد بعد وفاة أستاذه العياشي، فاستقل بالحركة وتزعمها بنفسه وقد شكّل اغتيال العياشي حافزًا لغيلان كي يثأر له ويواصل نهجه في محاربة المحتلين الأوروبيين والمتعاونين معهم.

السيطرة على القصر الكبير ومنطقة الهبط: تمكن الخضر غيلان سريعًا من تحقيق انتصارات عززت موقعه. ففي عام 1063هـ/1653م تقريبًا شنّ هجومًا حاسمًا على مدينة القصر الكبير عاصمة منطقة الهبط آنذاك وانتزعها من أتباع الزاوية الدلائية الذين كانوا يسيطرون عليها. خلال هذا الهجوم قُتل علي بن أحمد الشخص الذي دبّر اغتيال العياشي على يد قوات غيلان، كما لقي عدد من أعيان الموالين للدلائيين مصرعهم  وطرد الخضر عددًا كبيرًا من العائلات المناوئة له مثل أولاد القنطري وهم موريسكيون استوطنوا القصر الكبير بهذه الخطوة أحكم غيلان قبضته على القصر الكبير وجعلها حاضرته السياسية والعسكري، واستتب له الأمر في معظم بلاد الهبط والساحل الشمالي الغربي. امتد نفوذه بعد ذلك ليشمل أراضي شاسعة بين طنجة وسبتة، وتطوان وشفشاون وتازة ، وبات قائدًا فعليًا لإمارة جهادية في الشمال المغربي. هذا النجاح أربك خصومه المحليين، ومكّنه من التفرغ لمقارعة المستعمرين الأوروبيين؛ فانطلق من القصر الكبير لشن عمليات ضد البرتغاليين في طنجة والإسبان في العرائش وغيرها

معركة العرائش: الهجمات والحصار 16551666

شكّلت مدينة العرائش الهدف الرئيسي للخضر غيلان بعد توحيده القبائل تحت رايته. فاستعادة هذه القلعة الاستراتيجية من الإسبان كانت ذات قيمة رمزية وعملية كبرى للمغاربة. وقد خاض غيلان سلسلة من المعارك والحصارات لمحاولة تحرير العرائش، أبرزها في السنوات 1655م و1657م و1666م. فيما يلي وصف chronologically لهذه المحاولات، مع إبراز التكتيكات التي استخدمها غيلان والمقاومة المغربية، وردود فعل الإسبان:

  • الهجوم الأول عام 1655م: بعد أن أخضع غيلان قبائل منطقة الغرب لنفوذه، حشد قوات كبيرة من مجاهدي القبائل وتوجه نحو العرائش في أواخر شهر مايو 1655 . بتاريخ 28 مايو 1655م بدأ الهجوم على القلعة الإسبانية؛ حيث طوّقت القبائل المدينة وحاولت إحداث فتحات في أسوارها لاقتحامها . أدرك حاكم العرائش الإسباني خطورة الموقف، فأمر بنصب كل المدافع الممكنة لتغطية نقطة الاختراق التي استهدفها المجاهدون . وفي ذات الوقت، قام الحاكم بتنفيذ هجوم مضاد خاطف خارج الأسوار مستغلًا عنصر المفاجأة، مما أجبر قوات غيلان على التراجع الأولي. كانت تلك المعركة ساخنة لكنها لم تسفر عن سقوط العرائش، إذ استطاع الإسبان الدفاع عن القلعة رغم كثافة هجوم القبائل المغربية.
  • الهجوم الثاني عام 1657م: لم ييأس الخضر غيلان من المحاولة الأولى، فعاد بعد عامين بحملة أقوى. ففي 9 مايو 1657م شنّ هجومًا عنيفًا جديدًا على العرائش . تذكر الروايات التاريخية أن هذا الهجوم كاد يُسقِط القلعة، حيث لحقت بالحامية الإسبانية أضرار جسيمة ووصل المجاهدون إلى مشارف الأسوار. وقد وصف المؤرخون الإسبان ما جرى بقولهم إن القلعة «لم تنجُ من تلك الأحداث إلا بمعجزة» . وأوردت التقارير العسكرية الإسبانية تفاصيل مذهلة عن المعركة، فذكرت أنه بمعجزة حقيقية لم تقع سوى 11 إصابة فقط في صفوف المدافعين الإسبان بين قتيل وجريح رغم شدة القتال، بينما تكبّد المهاجمون المغاربة أكثر من 400 قتيل سقطوا في أرض المعركة . كان هذا الفارق في الخسائر مذهلًا للإسبان وعزوه إلى حصانة تحصينات القلعة وحسن استعداد المدافعين. تُظهر هذه الأرقام أن مقاومة الإسبان بلغت أوجها في 1657، إذ حشدوا المدفعية بكثافة وامطروا قوات غيلان بوابل من القذائف والبنادق للحيلولة دون اقتحام الأسوار . وبالرغم من فشل غيلان في تحرير العرائش خلال تلك المحاولة، إلا أنه واصل الضغط على الحامية الإسبانية وفرض عليها حالة استنفار دائم.
  • المحاولات اللاحقة 1666م: استمر الخضر غيلان في تعزيز قوته خلال أوائل ستينيات القرن 17، ونجح في ضم تطوان وأصيلة إلى نطاق ولائه ومع تصاعد نفوذه واتساع قواته، قرر القيام بمحاولة أخيرة كبيرة لاستعادة العرائش حوالي عام 1666م  وضع خطة محكمة شملت تصنيع سلالم حصار خشبية طويلة لاجتياز الأسوار واستغل حالة إنهاك الحامية الإسبانية بالمرض والجوع إذ كانت أحوال القلعة متدهورة داخليًا آنذاك . غير أن عنصر المفاجأة في هذه الخطة ضاع بسبب تسرّب أخبارها إلى الإسبان؛ إذ قام أسير إسباني لدى غيلان بالهرب أو إيصال المعلومة إلى الحامية، فأعدّت دفاعاتها مسبقًا. نتيجة ذلك فشلت محاولة اقتحام الأسوار بالسلالم قبل أن تبدأ فعليًا. لكن غيلان لم يتراجع، فلجأ إلى تكتيك بديل جريء تمثّل في شنّ هجوم بحري/نهري على القلعة: جهّز خمس مراكب كبيرة مشحونة بالمقاتلين وأنزلها في نهر اللكوس للتقدم نحو العرائش من جهة البحر . كان الهدف مباغتة الإسبان بالسيطرة على الساحل أسفل القلعة ثم اقتحام باب البحرية البوابة المطلة على البحر من الخلف . ظهرت قوارب المجاهدين فجأة عند مصب النهر باتجاه شاطئ العرائش، وكادت تنجح في إنزال القوات على الشاطئ . إلا أن الإسبان تصدّوا لهذه المحاولة أيضًا بكل قوة؛ حيث اعترضتهم سفينة حربية إسبانية كبيرة كانت راسية في الميناء فقامت بقصف القوارب ومنعتها من الوصول إلى بوابة البحر. دار قتال عنيف على مشارف المرسى أسفر عن إحباط الهجوم البحري ومقتل عدد من رجال غيلان، بينهم أخوه الذي سقط في المعركة. أدرك الخضر غيلان أن دفاعات العرائش عصية في الوقت الراهن، فانسحب مُكرَهًا وتخلّى عن فكرة الاستيلاء على المدينة بعد تلك الخسائر والإخفاقات المتتالية . وقد عمّت الفرحة صفوف الإسبان عند تأكدهم من انسحاب قوات غيلان نهائيًا؛ واعتبروا صمودهم أمام حصاراته المتكررة انتصارًا عسكريًا ومعنويًا كبيرًا .

تكتيكات المقاومة المغربية: اتسمت محاولات غيلان لتحرير العرائش ببراعة تكتيكية لافتة. فقد اعتمد على حشد قبائل المنطقة عبر النداءات الدينية الجهاد ضد الكفار المحتلين مما وفر له قوة بشرية كبيرة من فرسان ورماة القبائل. استخدم هذه القوات في شن هجمات مباغتة ومتزامنة من عدة اتجاهات، وسعى إلى إحداث فتحات في الأسوار بالدفع الانتحاري أو نسف أجزاء منها. كما طبّق استراتيجية حرب الحصار الطويل لتجويع الحامية وإضعافها معنويًا عبر قطع الإمدادات المائية والتموينية. على سبيل المثال، خلال حصاره لعام 1657 قطع مجاهدوه قناة المياه الرومانية التي كانت تزود العرائش بالماء من نهر اليهود، مما أوقع الضيق بالحامية . ورغم أن الإسبان استغلوا وجود آبار داخلية للتخفيف من الأزمة، فإن تكتيك حرمان العدو من الماء كان فعالًا. أيضًا لجأ غيلان إلى استخدام الوحدات البحرية المتاحة قوارب نهرية لنقل المعركة إلى نقطة ضعف القلعة من جهة البحر، في محاولة جريئة لاستغلال مجرى اللكوس. وفي كل هجماته، حرص على تنسيق جهود القبائل وتوحيد قيادتها تحت رايته، مستفيدًا من خبرته الطويلة في حروب العصابات ضد البرتغاليين والإنجليز. هذه التكتيكات وإن لم تُثمر عن تحرير العرائش في حياة غيلان، إلا أنها ألحقت بالإسبان خسائر كبيرة وأبقـتهم في حالة استنزاف وتأهب دائم، مما مهد لاحقًا لتحرير المدينة على يد السلطان المولى إسماعيل سنة 1689م.

مواجهة المحتلين الآخرين: طنجة وسبتة

بالتوازي مع قتاله الإسبان في العرائش، خاض الخضر غيلان مواجهات مهمة ضد القوى الاستعمارية الأخرى في شمال المغرب، خاصة البرتغاليين ثم الإنجليز في طنجة. فقد كانت طنجة محتلة من البرتغال منذ أواخر القرن 15م وعادت لسيطرتهم سنة 1640م بعد فترة حكم إسباني وجيزة، ثم ceded في 1662م إلى إنجلترا كمهر زواج الملك تشارلز الثاني. لذا اعتبرها غيلان جزءًا من مشروع جهاده لطرد الأوروبيين. بعد أن ثبت أقدامه في القصر الكبير، بدأ بمضايقة الحامية البرتغالية في طنجة ابتداءً من عام 1653م وما بعده . وخاض معهم مناوشات عديدة، حتى اضطر حاكم طنجة البرتغالي فرناندو دي ميندونسا إلى طلب هدنة سنة 1656م مع غيلان . قبل الخضر تلك الهدنة المؤقتة ومدتها عام واحد، استفاد منها لإعادة تنظيم صفوفه حول طنجة .

مع انتهاء الهدنة في 1657م، شنّ غيلان هجومًا كاسحًا على طنجة بقوات قُدّرت بحوالي 25,000 مجاهد، حيث حاصر المدينة من كل الجهات. وعمد إلى قطع إمدادات المياه عن القلعة عبر تعطيل القناة التي تجلب الماء من الينابيع المجاورة القناة الرومانية المرتبطة بوادي اليهود . أدّى ذلك إلى أزمة داخل طنجة المحاصرة، فاستنجدت الحامية بالبرتغال التي أرسلت أسطول إمداد؛ لكن المفاجأة كانت أن أسطولاً مغربيًا حليفًا لغيلان نصب كمينًا للإمدادات قبالة سواحل أصيلة ودمرها قبل أن تصل طنجة . شكّل هذا الانتصار دفعة معنوية كبيرة لغيلان. وأمام هذا الضغط، تخلّت مملكة البرتغال عن طنجة تمامًا سنة 1662م وسلمتها للبريطانيين . لكن الحال لم يتحسن كثيرًا للإنجليز؛ إذ واصل رجال غيلان شن هجمات مستمرة على أسوار طنجة ومحيطها، حتى اضطر الإنجليز أيضًا للتفاوض معه وعقد هدنة حفاظًا على بقائهم . وعلى غرار البرتغاليين، استغل الإنجليز الهدنة لتحصين طنجة بتحصينات أقوى وبناء أسوار جديدة ما زالت آثارها قائمة اليوم في قصبة طنجة ولم يكتفِ غيلان بالضغط العسكري، بل أنشأ قلعة خاصة به على مقربة من طنجة تُعرف اليوم بـقصبة غيلان في منطقة ملاّباطا شرق المدينة عام 1664م ، مهمتها مراقبة طنجة وصد أي هجوم أوروبي محتمل من تلك الجهة. وقد وصف معاصروه هذه القلعة بأنها “حصن أحدث صداعًا في رأس الإنجليز” بسبب ما سببتهم لهم من إزعاج عبر العمليات المنطلقة منها.

استمر الصراع بين غيلان والإنجليز في السنوات اللاحقة كرّ وفرّ؛ فحتى بعد رحيل غيلان، ظل حصار المغاربة لطنجة قائمًا إلى أن اضطر الإنجليز بدورهم لإخلائها نهائيًا سنة 1684م. ويمكن القول إن استراتيجية غيلان في التضييق المستمر على طنجة المحتلة نجحت في إنهاك الحاميات الأجنبية، سواء برتغالية أو إنجليزية، ومهدت لتحرير المدينة لاحقًا. وبذلك، كان الخضر غيلان يقاتل على جبهتين متزامنتين: جبهة طنجة ضد البريطانيين، وجبهة العرائش ضد الإسبان – في واحدة من أشد الفترات حرجًا في تاريخ المقاومة المغربية.

الصدام مع القوى المغربية المنافسة الدلائيين والعلويين

لم يكن طريق الخضر غيلان نحو السلطة والمقاومة مفروشًا بالورود؛ فإضافة إلى قتاله للمحتلين الأوروبيين، اضطر أيضًا لمواجهة قوى مغربية منافسة حاولت إقصاءه أو توسيع نفوذها على حسابه. أبرز خصمين محليين لغيلان كانا: الزاوية الدلائية في وسط المغرب، والدولة العلوية الناشئة في الجنوب الشرقي والتي بدأت تمد نفوذها شمالًا.

مواجهة الزاوية الدلائية: بحلول أوائل ستينيات القرن 17، كانت فترة السيبة قد أفرزت عدة مراكز قوة؛ منها زاوية دِلّاي في الأطلس المتوسط التي أسسها أبو بكر الدلائي وتزعمها بعده ابنه الشيخ محمد الحاج الدلائي. بعد نجاحات غيلان في الشمال القصر الكبير وتطوان وغيرها، رأت الزاوية الدلائية فيه تهديدًا لنفوذها خصوصًا في منطقة الغرب والشمال الغربي. في سنة 1664م تقريبًا، وبعد عودة غيلان من حملته على العرائش واستعداده لهجوم جديد على طنجة، تحركت قوات دلائية كبيرة شمالًا بقيادة الشيخ محمد الحاج لمحاصرته. التقى الجيشان عند منطقة مولاي بوسلهام قرب ساحل المحيط الأطلسي في معركة فاصلة . أسفرت تلك المعركة عن انتصار الخضر غيلان وهزيمة الجيش الدلائي هزيمة نكراء. مكّن هذا الانتصار غيلان من تأمين ظهره والتفرغ لتطهير ما تبقى من معاقل موالية للدلائيين في الشمال. فتقدّم نحو تطوان التي كان يحكمها آل النقسيس الموالون لدلآي واستولى عليها بدعم من قبائل المنطقة . ورغم أن سكان تطوان قاوموه بشدة وفاءً للدلائيين، استطاع غيلان دخول المدينة. لكنه اختار سياسة حكيمة بكسب ولاء أسرة النقسيس الحاكمة بدلاً من إقصائها، فأعاد الحكم nominally لأحمد بن عبد الكريم النقسيس بعد تفاهم بينهما . بهذا ضمن غيلان حياد أو ولاء إمارة تطوان المحلية، ووسع نطاق تحالفاته في الشمال.

على أثر هزيمة مولاي بوسلهام، تراجعت سطوة الزاوية الدلائية في الشمال، وانكفأ محمد الحاج الدلائي لحماية مركزه في فاس ومناطق الأطلس. لكن لم يمهله القدر طويلًا؛ فسرعان ما ظهر خصم آخر أشد بأسًا لكل الأطراف، وهو السلطان المولى الرشيد العلوي الذي بدأ بتوحيد المغرب.

المواجهة مع الدولة العلوية: بحلول منتصف الستينيات 1600م، كان الأمير العلوي مولاي رشيد بن الشريف قد نجح في القضاء على الزاوية الدلائية نفسها هزم الدلائيين وقتل شيخهم عام 1668م وتثبيت حكمه في فاس كسلطان مؤسس للدولة العلوية. خلال حملاته تلك، اصطدم أيضًا مع الخضر غيلان الذي كان يُحكم قبضته على جهة الشمال. في سنة 1077هـ/1667م تقريبًا، وبعد استقرار الحكم لمولاي رشيد في فاس .، توجه بجيشه غربًا صوب منطقة الهبط لمنازلة غيلان. دارت بينهما مواجهات انتهت بهزيمة جيش غيلان وانسحابه من تطوان نحو ساحل المحيط . أخضع المولى الرشيد قبائل جبلية كانت موالية لغيلان مثل بني زروال ثم دخل تطوان بدون قتال بعدما فرّ منها غيلان إلى مدينة أصيلة الساحلية . عاد السلطان إلى فاس بعد حصوله على البيعة من معظم مناطق الشمال فيما بات الخضر غيلان في وضع صعب؛ إذ خسر تطوان وقسمًا من نفوذه لصالح العلويين.

سعى غيلان لإعادة ترتيب أوراقه عبر طلب الدعم الخارجي. فقرر التوجه شرقًا إلى مدينة الجزائر حاضرة إيالة الجزائر العثمانية طالبًا عون العثمانيين لمقاومة العلويين. وبالفعل تشير الروايات إلى أنه حصل على بعض المساعدات العسكرية من العثمانيين ربما أسلحة أو متطوعين، إذ رأى العثمانيون في استمرار الفوضى بالمغرب مصلحة لهم لعرقلة تمدد الدولة العلوية الجديدة. لكن قبل أن يتمكن غيلان من التحرك، توفي السلطان مولاي رشيد بشكل مفاجئ إثر حادث سقوطه عن فرسه في مراكش عام 1672م شكّل موت رشيد فرصة ذهبية للخضر غيلان كي يُحيي طموحه السياسي، خاصة مع اضطراب الدولة العلوية حديثة النشأة وتنافس الأمراء على السلطة.

وبالفعل، ما إن علم غيلان بوفاة مولاي رشيد حتى سارع بالعودة إلى بلاد الهبط سنة 1672م وأعاد إحياء مشروعه للاستقلال بالمنطقة الشمالية استفاد من الأسلحة والإمدادات التركية لتعزيز قواته، وانضمّت إليه بعض القبائل مجددًا. في تلك الأثناء كان السلطان الجديد مولاي إسماعيل شقيق رشيد منشغلاً بتثبيت حكمه وقمع ثورات أخرى في البلاد مثل تمرد ابن محرز في الجنوب الشرقي. لكن مولاي إسماعيل أدرك خطر غيلان كأولوية قصوى نظرًا لنفوذه واتصاله المحتمل بالعثمانيين لذا، بعد إخفاق حملة إسماعيل الأولى على متمردي تافيلالت، وجه جهوده نحو الشمال. قاد السلطان حملة عسكرية قوية باتجاه بلاد الهبط في صيف 1673م. ورغم أن جيش إسماعيل تكبّد هزيمة في اشتباك أولي مع قوات غيلان إلا أن استمرار الضغط العلوي وكثافة التعزيزات أجبرت الخضر غيلان في النهاية على التقهقر نحو معقله الأخير بالقصر الكبير. ضرب مولاي إسماعيل حصارًا شديدًا على القصر الكبير استمر عدة أسابيع وأسفر عن تدمير أجزاء كبيرة من المدينة . أخيرًا، تمكن جيش السلطان من دخول القصر الكبير وقتل الكثير من أنصار غيلان، وأُسر الخضر نفسه. وبأمر من المولى إسماعيل تم إعدام الخضر غيلان سنة 1084هـ / 1673م داخل القصر الكبير، لتنتهي بذلك حركته نهائيًا . دُفن غيلان في القصر الكبير وظل قبره معروفًا ومقصودًا من الأهالي حتى زمن لاحق، قبل أن يتعرض للاندثار أو الهدم في فترة غير محددة .

هكذا انتهت مسيرة الخضر غيلان: أمير الجهاد في الشمال الذي أرعب الأوروبيين ونازع العلويين على الحكم. وبرغم نهايته المأساوية، فقد خلّف غيلان أثرًا بالغًا في تاريخ المغرب خلال تلك الحقبة الحرجة، سواء من حيث إحيائه روح المقاومة ضد المستعمر، أو من حيث إسهامه – ولو بشكل غير مباشر – في تسريع جهود توحيد البلاد تحت راية الدولة العلوية بعدما أزال الكثير من القوى المنافسة كالدلائيين وضعف القوى القبلية.

المصادر التاريخية والأكاديمية حول الخضر غيلان

أثارت شخصية الخضر غيلان ومرحلة حركته اهتمام العديد من المؤرخين قديمًا وحديثًا، نظرًا لدوره المحوري في مقاومة الاستعمار الأوروبي وصراعات السلطة الداخلية في المغرب القرن 17. تتنوع المصادر التي تناولت سيرته بين مصادر مغربية تقليدية وأبحاث أكاديمية حديثة بمختلف اللغات:

  • المصادر المغربية التقليدية: وثّق المؤرخون المغاربة أحداث عصر السيبة والجهاد ضد النصارى في مؤلفاتهم. من أبرزها كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لأحمد بن خالد الناصري القرن 19 الذي أرخ لتلك الفترة وذكر حركة الخضر غيلان بالتفصيل. كذلك تناولتها «مناهل الصفا» للمؤرخ المهدي بن عبد الرحمن الفاسي وغيرها من كتب التاريخ المغربي التي رصدت انهيار الدولة السعدية وصعود الزوايا ثم الدولة العلوية. هذه المصادر العربية الأصلية غالبًا ما اعتمدت على روايات شفوية ومدونات معاصرة لضبط الوقائع، وتُعَد مرجعًا أساسيًا لفهم رؤية المغاربة لتلك الأحداث.
  • السجلات والوثائق الأوروبية المعاصرة: وفرت المراسلات والتقارير العسكرية الأوروبية مادة خام مهمة عن الخضر غيلان. فالإسبان الذين عايشوا هجماته كتبوا تقارير مفصلة عن معركة العرائش وحصاراتها. على سبيل المثال، هناك مخطوطة إسبانية مؤرخة في 5 مارس 1666م محفوظة في مكتبة مدريد الوطنية رقم 2393 تتحدث عن «تقدم غيلان وأعمال العرائش، تطرقت إلى شراسة هجماته ووصفت كيف كان صمود الحامية الإسبانية أقرب إلى معجزة كما أسلفنا . أيضًا، الضباط الإنجليز في حامية طنجة دوّنوا مشاهداتهم عن غيلان في تقارير رسمية ويوميات. فهناك رسائل محفوظة في الأرشيف البريطاني ضمن مراسلات حكام طنجة مع البلاط تذكر اتصالاتهم مع "Gayland" وشروط الهدنة معه . كما كُتب كتيّب إنجليزي معاصر بعنوان «رواية موجزة عن الحالة الحاضرة لطنجة والانتصارات التي حققها إيرل تيفوت ضد غيلان» ونُشر في لندن عام 1664م، يعرض وجهة النظر الإنجليزية عن حربهم مع غيلان وانتصارهم في إحدى المناوشات بالقرب من طنجة. هذه الوثائق الأوروبية المعاصرة الإسبانية والبرتغالية والإنجليزية غنية بالتفاصيل العسكرية والسياسية وتقدّم صورة مباشرة عن خصوم غيلان وكيف كانوا ينظرون إليه: تارة يعتبرونه قاطع طريق متمردًا وتارة يصفونه بأمير الغرب البربري الذي يسعى لتأسيس مملكة لنفسه .
  • المؤلفات والأبحاث الحديثة: لاقى موضوع الخضر غيلان اهتمامًا من المؤرخين المحدثين عربًا وغربيين. في العالم العربي، تناول باحثون مغاربة سيرته في سياق دراسة تاريخ المغرب في فترة ما بين سقوط السعديين وبزوغ العلويين. على سبيل المثال، قدّم عزيز الحساني دراسة موثقة بعنوان «أضواء على تاريخ القصر الكبير في الفترة الحديثة» ناقشت تلك المرحلة بما فيها دور غيلان في القصر الكبير. وكذلك نشر الباحث عبد المجيد بن جلون مقالات عن مقاومة الشمال المغربي ضد الاحتلال البرتغالي والإنجليزي تطرقت لشخصية غيلان. أما في الغرب، فقد تضمنت «دائرة المعارف الإسلامية» Encyclopedia of Islam إشارات إلى al-Khadir Ghaylan بوصفه زعيمًا محليًا قويًا في المغرب خلال القرن 17 تصادم مع العلويين. كما ناقش جون تشايلدز في كتابه «جيش الملك تشارلز الثاني» 1976 الحملات العسكرية في طنجة، متضمنًا فصولًا عن المعارك مع قوات "Gayland" عام 1664م. وخصص المؤرخ أدريان تينيسوود في كتابه «قراصنة بربر الساحل» 2010 جزءًا للحديث عن سياق تلك الحقبة، وذكر كيف تعاون غيلان مع جمهورية سلا وقراصنة الساحل في جهاده . كذلك تناولت بعض الدراسات الإسبانية الحديثة الموضوع، فمثلاً نشر كارلوس رودريغيث جوليا دراسة تحليلية في دورية MEAH عام 1982 حول مسرحية إسبانية قديمة تتناول حصار العرائش تحمل عنوان «أعمال العرائش وتقدم غيلان»، واستعرض في مقدمته خلفية غيلان التاريخية اعتمادًا على مصادر أرشيفية  . هذه الأبحاث الأكاديمية الحديثة – بمختلف اللغات العربية، الإنجليزية، الإسبانية، الفرنسية – أعادت إحياء الاهتمام بالخضر غيلان باعتباره شخصية محورية لفهم مغرب القرن 17 سياسياً وعسكرياً.

الوثائق الأصلية والأرشيفية المرتبطة بغيلان ومعركة العرائش

إضافة إلى المصادر السردية، هناك عدد من الوثائق الأصلية المعاصرة لفترة الخضر غيلان والتي توفر رؤى أولية عن أحداث زمانه. من أهم تلك الوثائق:

  • مراسلات الخضر غيلان مع الإنجليز في طنجة: خلال مفاوضات الهدنة بينه وبين حامية طنجة الإنجليزية، تم تبادل رسائل رسمية تحدد شروط الهدنة والتزامات الطرفين. إحدى هذه الرسائل عبارة عن خطاب موجّه من الخضر غيلان إلى ملك بريطانيا تشارلز الثاني بتاريخ 10 سبتمبر 1663م يشرح فيه موقفه ويطلب السلام بشروط معينة. كما تحتفظ سجلات مجلس تجارة طنجة برسائل من حاكم طنجة الإنجليزي إلى "Guyland" والعكس خلال عامي 1663–1664م. هذه المراسلات الوثيقة تكشف دهاء غيلان الدبلوماسي؛ فمثلاً اشترط على الإنجليز ضمان أمان طرق القوافل في محيط طنجة مقابل وقف الهجمات، وكان يفاوض من موقع القوة بعد نجاح حصاره للموقع.
  • تقارير الحامية الإسبانية في العرائش: دأب قادة العرائش الإسبان على رفع تقارير دورية إلى السلطات في سبتة ومدريد حول حالة القلعة والهجمات المغربية. من تلك التقارير واحد كتبه الحاكم خوان ألڤارادو دي برacamonte إثر هجوم 1657م، أشار فيه إلى حجم خسائر المغاربة 400 قتيل مقابل خسائر ضئيلة للإسبان 11 فقط معتبرًا نجاة القلعة أمرًا إلهيًا خارقًا . كما أرسل حاكم العرائش في 1655م تقريرًا يشرح فيه تكتيك الهجوم المفاجئ المضاد الذي نفذه لكسر حصار غيلان الأول . هذه الوثائق العسكرية الإسبانية موجودة في الأرشيف العام في مدريد وقادس، وبعضها نُشر في كتب ووثائق لاحقة. على سبيل المثال، أورد المؤرخ الإسباني كابريرا دي كوردوبا في حولياته نصوصًا من تلك التقارير ضمن أحداث سنوات 1655–1657م  .
  • سجلات ووثائق الزاوية الدلائية: على الرغم من إتلاف الكثير منها بعد سقوط الزاوية، يُعتقد أن بعض المراسلات بين محمد الحاج الدلائي وقادة فاس تشير إلى حملته ضد غيلان. كما أن رسائل السلطان مولاي رشيد ووثائق بَيْعَتِه في فاس عام 1667م تُلمح إلى فرار غيلان ومطاردته .
  • رسائل الدولة العثمانية في الجزائر: لم يُعثر حتى الآن – حسب المعلومات المنشورة – على نص واضح لطلب غيلان دعم العثمانيين، لكن سجلات الدايات والباشاوات في الجزائر قد تتضمن مراسلات عن متمرد مغربي يطلب مساعدات ضد سلطان فاس. أي وثيقة كهذه إن وُجدت ستكون ذات قيمة في فهم علاقات غيلان الخارجية. وربما تظهر في سجلات أرشيف الدولة العثمانية في اسطنبول ضمن تقارير إيالة الجزائر أو مراسلات الباب العالي المتعلقة بالمغرب في تلك الفترة.
  • العملات والنقود: لم يثبت أن الخضر غيلان سكّ عملة باسمه؛ فبحكم أنه لم يعلن نفسه سلطانًا رسميًا، بقيت النقود المتداولة بسكة السعديين أو العلويين. ومع ذلك فإن العثور على أي عملات ضربت في القصر الكبير خلال سيطرته ربما تحمل إشارات ككتابة اسم مدينة القصر الكبير أو تواريخ الحصار بشكل غير مباشر لعهد غيلان.

إن جمع هذه الشذرات الوثائقية من الأرشيفات الإسبانية والبرتغالية والبريطانية والعثمانية، ومقارنتها بما في المصادر المغربية، يساعد الباحثين المعاصرين على إعادة تركيب صورة دقيقة عن تحركات الخضر غيلان ومعاركه. وقد قامت بعض المشاريع البحثية فعلاً بنشر أجزاء من تلك الوثائق، مثل سلسلة "أرشيفات المغرب" التي تضمنت في المجلد 18 ترجمة فرنسية لتقارير برتغالية عن حصار طنجة ومعارك غيلان في 1657م. كما نُشرت بعض الرسائل الإنجليزية ضمن تقويم الوثائق الاستعمارية البريطانية Calendar of State Papers المتعلقة بطنجة.

تمثلات الخضر غيلان في الأدب والفن الأوروبي

ترك صدى مواجهات الخضر غيلان مع الأوروبيين انطباعًا قويًا في المخيال الأوروبي خلال القرن السابع عشر، فظهر كشخصية درامية في عدد من الأعمال الأدبية والفنية الأوروبية المعاصرة له أو اللاحقة مباشرة، منها:

  • في الأدب الإنجليزي: استحوذت شخصية "Gayland" على اهتمام كتاب المسرح في إنجلترا بعد إخلاء طنجة. ففي عام 1682م عُرضت على خشبة المسرح الملكي في لندن مسرحية بعنوان "وريث المغرب ومقتل غيلان" The Heir of Morocco, with the Death of Gayland من تأليف إليكاناه سيتل. هذه المسرحية كانت في ظاهرها تحكي عن صراع خيالي في المغرب ينتهي بمقتل الحاكم غيلان، لكن نقاد الأدب يرون أنها كُتبت بقصد سياسي ساخر يستهدف شاعر البلاط جون درايدن خصم المؤلف، وبالتالي فهي لا تعكس بدقة الواقع التاريخي. رغم ذلك، اختيار اسم "غيلان" وبروز شخصيته في المسرحية يدل على مدى شهرته في إنجلترا آنذاك كعدو شرس تم التغلب عليه. ومن الطريف أن الحبكة تخيّلت غيلان ملكًا مغربيًا له وريث، خلافًا لحقيقته كقائد محلي متمرد. وإلى جانب المسرح، ظهرت إشارات إلى Gayland في القصائد والأغاني الشعبية الإنجليزية عقب استرجاع طنجة، حيث صُوّر إما كزعيم قرصاني أو كـ“Turk” على سبيل الخلط مهزوم على يد المسيحيين.
  • في الأدب الإسباني: تركت معركة العرائش صدى في الأدب الإسباني المعاصر أيضًا. كتب الأديب دييغو رودريغيث مسرحية بعنوان "أعمال العرائش وتقدّم غيلان" Los trabaxos de Alarache y avanze de Gailán حوالي العام 1670م . هذه المسرحية تندرج ضمن ما يسمى «الكوميديا الإسبانية البطولية» التي تمجّد انتصارات الإسبان. وبرغم أنها لم تنل شهرة واسعة أو تمثَّل كثيرًا يُعتقد أنها لم تُعرض على المسرح أبدًا، إلا أن مخطوطتها عُثر عليها ضمن مكتبة دوق أوسونا في إسبانيا  . يمزج المؤلف في نصه بين الوقائع التاريخية والخيال الشعري، حيث يستند إلى الأساس التاريخي المتمثل في حصار غيلان للعرائش ، لكنه ينسج حوله حبكة درامية تخيلية. والمثير أن رودريغيث ربما شهد بنفسه حصار 1666م فجاءت كتاباته دقيقة نسبيًا في وصف بعض التفاصيل: مثل تآمر الأسرى، وتسلل المعلومات لغيلان، ومحاولة المراكب عبر نهر اللكوس  . تتجلى في ثنايا المسرحية صورة الخصم المغربي غيلان بملامح البطولة والشجاعة رغم عداوته، مما يضفي عليه بُعدًا إنسانيًا. وقد استخدم الكاتب اسم "Gailán" صراحةً وجعله الشخصية المحورية، مما خلّد ذكرى غيلان في الأدب الإسباني ولو بشكل محدود  . إلى جانب هذه المسرحية، وثق شعراء إسبان معاصرون لتلك الأحداث ما سموه «معجزة العرائش» في قصائد بطولية احتفاءً بصمود الحامية ، ذاكرين كيف اندحر غيلان وجموعه أمام عناية الإله بالسلاح الإسباني.
  • في الكتابات التاريخية الأوروبية: ظهر الخضر غيلان كشخصية في كتب التاريخ والجغرافيا الأوروبية خلال القرن 17. فبعض الرحالة مثل جون ويندوس الذي زار المغرب في أوائل القرن 18، أشار في كتابه إلى قصص متداولة عن "القائد غيلان" وصراعه مع السلطان مولاي إسماعيل. كذلك تضمّن معجم البيوغرافيا العالمي الصادر في أوروبا لاحقًا ذكراً له بوصفه “زعيم قبلي مغربي تمرد وقتله السلطان” كإحدى حوادث المغرب اللافتة. وفي فرنسا، كتب المؤرخ موليراس في تاريخه عن المغرب مقتبسًا وصف المصادر الأوروبية لغيلان بأنه كان أميرًا طموحًا في شمال المغرب حاول انتحال المُلك لنفسه بتحالفه أحيانًا مع الإنجليز ضد أعدائه. هذه الصورة تولّدت من واقع أن غيلان فاوض الإسبان والإنجليز على تحالفات مرحلية لضمان استقلال إمارته، فبدا للأوروبيين وكأنه „Usurper“ – مغتصب للعرش في فاس كما نعته بعض الإسبان.
  • الفنون البصرية والخرائط: لا تُوجد فيما نعلم لوحات شخصية أو بورتريهات مرسومة للخضر غيلان من عصره، إذ لم يكن سلطانًا رسميًا لتُرسم ملامحه. لكن يمكن أن نجد تلميحات بصرية غير مباشرة: فهناك خرائط أوروبية للقرن 17 عن المغرب تُشير إلى منطقة نفوذه ككيان قائم بذاته. مثلاً، خريطة هولندية من عام 1665م تظهر فيها جهة لوكوس K. اللوكوس منفصلة لونًا عن بقية المغرب ربما للدلالة على تمردها. كذلك بعض النقوش الأوروبية التي تصوّر معارك طنجة أو العرائش رسمت مشاهد لفرسان مغاربة يُحتمل أنها تجسيد عام لقوات غيلان دون تسمية. ومن أشهر الرسومات، نقش هولندي ملون لمرسى مدينة العرائش حوالي سنة 1670م يُظهر السفن الإسبانية قبالة الميناء وقوات مغربية تراقب من التلال، وقد يكون استمد الإلهام من حصارات غيلان المتكررة يُلاحظ في الرسم سفن تحترق ربما إشارة لمحاولة المراكب الفاشلة. في المتاحف العسكرية الإسبانية اليوم، تُعرض أحيانًا خرائط وخطابات من حرب العرائش كجزء من تاريخ الجيش الإسباني في القرن 17، مما يُبرز غيلان خصمًا رئيسيًا.

باختصار، تحوّل الخضر غيلان في الذاكرة الأوروبية آنذاك إلى رمز للعربي المتمرد: يهاجم الثغور الاستعمارية ببسالة، ويوقع الخسائر، لكنه في النهاية يُهزم أمام الإرادة الإمبراطورية وفق منظورهم. ورغم النظرة العدائية له كـ“قرصان” أو “متمرد”، فقد أقرّ كثير من الأوروبيين بشجاعته وحنكته حتى وهم يوظفون شخصيته في أدبهم وفنهم لأغراض مختلفة.

تأثير الخضر غيلان في الذاكرة الشعبية المغربية والإسبانية

بعد مضيّ قرون على تلك الأحداث، ظلّت شخصية الخضر غيلان حاضرة بدرجات متفاوتة في الذاكرة الجماعية لكل من المغاربة والإسبان:

في الذاكرة الشعبية المغربية: يُنظر إلى الخضر غيلان اليوم في المغرب باعتباره بطلاً وطنيًا مغوارًا قاوم الاستعمار الأجنبي في زمن صعب. وعلى الرغم من أنه كان في مواجهة مع السلالة العلوية المؤسسة للدولة، إلا أن الوعي الشعبي خاصة في الشمال احتفظ له بصورة إيجابية كبطل محلي. فقد حافظ أهالي القصر الكبير – معقل غيلان الأخير – على ضريح الخضر غيلان وعظّموه لسنوات طويلة بعد مقتله، وظل معروفًا ويُزار من قِبل السكان إلى أن هُدم لاحقًا بظروف غير موثقة . كما دخل اسمه في التراث الشفهي لتلك المناطق؛ حيث تروى قصص شعبية عن شجاعته وكراماته في حربه مع النصارى، ومن ذلك حكايات عن اختراقه صفوف الإسبان متخفيًا أو نجاته من كمائن بأعجوبة، وهي قصص ربما تضخّم البطولات ولكنها تعبّر عن إعجاب الشعب بشخصه.

في العقود الأخيرة، أعاد المؤرخون المغاربة إحياء ذكرى غيلان من خلال دراسات ومقالات في المجلات التاريخية مثل مجلة زمان المغربية التي نشرت مقالاً بعنوان "عندما أرعب الخضر غيلان العلويين والأوروبيين. وبدأ يُنظر إليه ليس كمجرد متمرد على السلطان، بل كأحد رموز المقاومة المبكرة ضد الاستعمار في المغرب، سابقًا بذلك عهد الحماية الفرنسية-الإسبانية بقرون. حتى أن البعض يشبه دوره بدور زعماء المقاومة في القرن العشرين، من حيث توحيده القبائل ورفعه راية الجهاد لتحرير الأرض. وفي شمال المغرب، تحضر ذكرى غيلان محليًا في أسماء المعالم؛ فهناك حي أو منطقة تُدعى حومة غيلان في طنجة قرب موقع قصبته التاريخية إضافة إلى بقايا قصبة غيلان نفسها القائمة إلى اليوم كشاهد أثري على حقبته. هذه القلعة رغم إهمالها حاليًا، تذكّر سكان طنجة بتاريخ المقاومة المحلية ضد الاحتلال الإنجليزي. كما أن مدن العرائش والقصر الكبير تنظم أحيانًا ندوات أو إصدارات لاستذكار أبطالها التاريخيين ومنهم غيلان. كل ذلك يعكس استمرار حضور الخضر غيلان في المخيال المغربي كرمز للتحدي والإباء الوطني، حتى وإن لم يحظَ في كتب التاريخ المدرسية الرسمية بنفس القدر من التركيز مقارنةً بالسلاطين.

في المخيال الإسباني: على الجانب الإسباني، قد لا يكون اسم "Gaylán" متداولًا شعبيًا اليوم، لكنه بقي معروفًا ضمن سياق تاريخ تواجد إسبانيا في المغرب. فبالنسبة للإسبان، تُعد معركة العرائش 1657م وأخواتها جزءًا من تاريخهم العسكري في حقبة حكم آل هابسبورغ. ويبرز الخضر غيلان في هذا السياق كـخصم عنيد تمكنت حامية صغيرة من التصدي له بصعوبة. لذا صوّرت الكتابات التاريخية الإسبانية التقليدية الدفاعَ عن العرائش كملحمة بطولية: حتى أن بعضهم أطلق على الحامية لقب أبطال العرائش عقب صد هجوم 1657 . وفي إسبانيا الحديثة، قد يذكر هواة التاريخ العسكري هذا الحدث ضمن حروب إسبانيا ضد "الموريكس" المغاربة، لكنها تبقى معرفة لدى المختصين أكثر من العامة.

رغم ذلك، يظهر تأثير غيلان في الثقافة الإسبانية بشكل ضمني. فمثلاً لا تزال كلمة "غيلان" دارجة في بعض اللهجات الإسبانية بمعنى الشخص المخادع أو المراوغ، ويُحتمل أن أصلها يعود لصورة الخضر غيلان في المخيلة الإسبانية كمحارب مكّار أتعب الجيش إذ يذكر المؤرخ باريوس عام 1670 «ذلك الثعلب غيلان الذي ما انفك يراوغنا بين العرائش وطنجة» في أحد خطاباته. وإن صحّ هذا الأصل اللغوي الشعبي، فهو مثال على تخليد اسم غيلان في الذاكرة الجماعية الإسبانية بشكل مجازي. أما بشكل مباشر، فهناك شوارع في مدن إسبانية كانت محتلة بالمغرب تحمل أسماء تشير لتلك الحقبة مثل “Calle Alarache” في إشبيلية، نسبةً لمعركة العرائش. وإن كانت لا تذكر غيلان صراحةً، إلا أن تخليد الانتصار يتضمنه بصورة غير مباشرة كطرف في المعركة.

على مستوى الدراسات الإسبانية الحديثة، اهتم بعض المؤرخين بإبراز وجهة النظر المغربية أيضًا. فالباحث الإسباني فرناندو بيريث على سبيل المثال نشر دراسة عام 2010 قارنت بين صورة غيلان في المصادر المغربية والإسبانية, مشيرًا إلى أنه بطل قومي مغربي وفي آنٍ معًا عدوٌّ خطير للإسبان تمكنوا من التغلب عليه بشق الأنفس. مثل هذه الدراسات تساعد في نقل صورة أكثر توازنًا إلى القارئ الإسباني المعاصر، وتعرّفه على منظور “الآخر” المغربي بشأن شخصية تاريخية كغيلان.

في المحصلة، يُمكن القول إن الخضر غيلان ترك بصمة واضحة في الذاكرة التاريخية لكل من المغرب وإسبانيا. ففي المغرب هو بطل مقاوم مبجّل شعبيًا، وفي إسبانيا هو خصم جسور تفتخر سجلاتهم العسكرية بالانتصار عليه رغم صعوبة ذلك. وبين هذين الجانبين، يبقى إرث غيلان حيًا كجزء من الهوية التاريخية لمنطقة الشمال المغربي، وكعلامة على مرحلة مفصلية من الصراع المغربي-الأوروبي في القرن السابع عشر.

المراجع:

  1. عبدالله حفني، "الخضر غيلان.. بطل مغربي حارب الاستعمار البرتغالي والإسباني في بلاده"، اليوم السابع، 28 مايو 2022 الخضر غيلان.. بطل مغربى حارب الاستعمار البرتغالى والإسبانى في بلاده - اليوم السابع الخضر غيلان.. بطل مغربى حارب الاستعمار البرتغالى والإسبانى في بلاده - اليوم السابع.
  2. Arabic Wikipedia, "الخضر غيلان", آخر تعديل 2023 الخضر غيلان - ويكيبيديا الخضر غيلان - ويكيبيديا.
  3. Larache Archives Blog, "أحمد الخضر غيلان", 23 نوفمبر 2016 الخضر غيلان - ويكيبيديا Larache Archives أرشيف العرائش: أحمد الخضر غيلان.
  4. Carlos R. Joulia-Saintcyr, "Los trabaxos de Alarache y avanze de Gailán", MEAH 31 1982 pp.65-66  .
  5. Archives Marocaines, Vol. 18 1912, pp. 34-37 – تقارير مترجمة عن حصار طنجة 1657 Archives Marocaines Vol.18 | PDF | Maroc | Arabes Archives Marocaines Vol.18 | PDF | Maroc | Arabes.
  6. John Smith, Tangier: England’s Lost Atlantic Outpost, 1661–1684, London 1918, p.84 Full text of "Tangier, England's lost Atlantic outpost, 1661-1684" Full text of "Tangier, England's lost Atlantic outpost, 1661-1684".
  7. Elkanah Settle, The Heir of Morocco, with the Death of Gayland, London 1682 Khadir Ghaïlan - Wikipedia.
  8. Adrian Tinniswood, Pirates of Barbary, London 2010, p.215 Khadir Ghaïlan - Wikipedia.
  9. محمد الصغير الإفراني، نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي مخطوط، القرن 18 – فصل عن فتنة بني غيلان مقتبس في الاستقصا الخضر غيلان - ويكيبيديا.
  10. عزيز الحسني، "أضواء على تاريخ القصر الكبير في الفترة الحديثة"، بوابة القصر الكبير مارس 2012 الخضر غيلان - ويكيبيديا.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire