samedi 21 novembre 2009

EL JARDÍN DE LAS HESPERIDES

Entrada del JARDÍN DE LAS HESPERIDES





حديقة الأسود بمدينة العرائش: بحث تاريخي وتوثيقي

1. الظروف والسياق التاريخي لإنشاء الحديقة

تُعتبر حديقة الأسود بمدينة العرائش من أقدم الفضاءات الخضراء الحضرية في المدينة، إذ يعود تأسيسها إلى عهد الحماية الإسبانية في أوائل القرن العشرين. قبل إنشاء الحديقة، كان الموقع عبارة عن خندق دفاعي يُحيط بحصنٍ قديم يُعرف ببرج اللقلق (أو "حصن النصر السعدي") بُني في القرن الـ16larachearchives.blogspot.com. هذا الخندق المائي شكّل عائقًا طبيعيًا لحماية المدينة؛ لكنه بحلول أواخر القرن الـ19 تحول إلى بؤرة خطرة تنتشر فيها الجرائم بسبب الفوضى الأمنية آنذاكlarachearchives.blogspot.com. في أواخر عشرينيات القرن العشرين قررت سلطات الحماية الإسبانية ردم الخندق وتحويل المكان إلى حديقة عمومية للأطفال والمتنزهين، فسُمّيت الحديقة الجديدة "هسبيريديس" نسبةً إلى حدائق التفاح الذهبي الأسطورية قرب موقع ليكسوس الأثري المجاورlarachearchives.blogspot.comlarachearchives.blogspot.com. حملت هذه التسمية بُعدًا ثقافيًا يعكس أسطورة إغريقية مرتبطة بتاريخ المنطقة.

شكلت تماثيل الأسود الرخامية إحدى أبرز معالم الحديقة منذ نشأتها. تفيد المصادر التاريخية أن عددها كان أربعة تماثيل نُحتت في مدينة دريسدن بألمانيا سنة 1892 من رخام جُلِب خصيصًا من منطقة بوهيميا (تشيكيا حاليًا)hespress.comhespress.com. أُحضرت هذه الأسود إلى المغرب مطلع القرن العشرين بمبادرة من المارشال الألماني “ريشاوشن” الذي كان مقيماً بالعرائش، وذلك استعدادًا لزيارة قيصر ألمانيا غليوم الثاني لشمال المغرب عام 1905hespress.com. ورغم تضارب الروايات حول مصيرها اللاحق، فقد بقي منها أسدان فقط نُصبا عند المدخل الرئيسي لحديقة هسبيريديسhespress.com. وجود هذين التمثالين أكسب الحديقة تدريجيًا اسمها الشائع الحالي "حديقة الأسود" بدلًا من اسمها الأصليhespress.com. أما التمثالان الآخران فقد فُقدا مع مرور الزمن؛ أحدهما كان يعتلي بوابة مصنع ألماني قديم (عرفه أهل العرائش بـ"دار الدباغ") قبل أن يختفي في ظروف غامضة، والثاني اختفى أيضًا ويُرجح أن إحدى الشخصيات نقلته إلى خارج المدينةtanja24.comtanja24.com. هكذا تأسست حديقة الأسود في سياق جهود استعمارية لجعل المدينة أكثر تحضرًا وأمنًا، مع لمسة أسطورية وتاريخية تجسّدها تماثيل الأسود الفريدة والأسطورة المرتبطة باسمهاlarachearchives.blogspot.comhespress.com.

2. الدور الحضري والترفيهي خلال فترات الازدهار

على امتداد عقود من القرن العشرين، أدّت حديقة الأسود دورًا مهمًا كرئة خضراء ومتنفس ترفيهي في قلب مدينة العرائش. شكّلت الحديقة ملتقى للأهالي من مختلف الأعمار، فالأطفال كانوا يجدون فيها ساحات للعب واللهو، والكبار يرتادونها للتنزّه والاستجمام في ظل الأشجار الوارفةlarachearchives.blogspot.com. امتازت الحديقة بتنوع نباتي رائع؛ حيث زُرعت فيها أصناف عديدة من الأشجار والزهور مشكلةً لوحة طبيعية جذابة. واحتوت الحديقة في فترة ازدهارها على مرافق ترفيهية كالممرات الواسعة للمشاة وأماكن جلوس مظللة، بل وتوفر فيها آنذاك مقهًى ومطعم لخدمة الزوارotlaat.com – من أشهرها مقهى نادين الذي ظل لعقود مقصدًا للعائلات قبل إغلاقه لاحقًا.

شهدت الحديقة أيضًا إدخال عناصر ترفيه غير معتادة، مثل وضع قفص كبير للحيوانات في وسطها. فقد اشتهرت في السبعينيات والثمانينيات باحتضانها لقرد يُدعى “تشيتا” – تيمنًا بالقرد المرافق لشخصية طرزان السينمائية – الذي كان محبوبًا لدى الأطفال والزوارlarachearchives.blogspot.com. ورغم طباع هذا القرد المزاجية في البداية والتي أثارت خوف البعض، إلا أنه أصبح مع الوقت جزءًا من ذاكرة المكان بعد أن اعتاد على الناسlarachearchives.blogspot.com. كما ضمّت الحديقة بركة مائية صغيرة كانت تسبح فيها البط، مما أضفى عليها أجواءً حيوية أقرب ما تكون إلى حديقة حيوان مصغرة. كل هذه العناصر جعلت من حديقة الأسود فضاءً حضريًا فريدًا يجمع بين الجمال الطبيعي والتسلية، وشهدت الحديقة في عصرها الذهبي إقبالًا كبيرًا من السكان لقضاء الأمسيات والعطل بين أحضان الطبيعة. حتى أنه عند إعادة افتتاحها جزئيًا سنة 2016، تدفّق الأهالي لزيارتها مجددًا واسترجاع ذكرياتهم، يلتقطون الصور بين جنباتها ويتمتعون بجمالية فضائها الأخضرlaracheinfo.com، مما يدل على المكانة الخاصة التي احتلتها الحديقة في وجدان سكان العرائش قديمًا وحديثًا.

3. مشاريع التهيئة والتأهيل التي عرفتها الحديقة

شهدت حديقة الأسود عبر تاريخها بعض مبادرات التأهيل والصيانة، خاصة في العقود الأخيرة، بهدف إعادتها إلى سابق عهدها كفضاء عمومي وظيفي. فيما يلي أبرز هذه المشاريع ومحطاتها الزمنية:

  • مشروع التأهيل الأول (2012–2013): أطلقت السلطات المحلية مشروعًا أوليًا لإعادة تهيئة الحديقة بداية العقد 2010، وشملت الأشغال آنذاك ترميم البنية التحتية وإقامة بوابة جديدة. لكن تنفيذ المشروع واجه عراقيل بعدما أقدمت المقاولة المكلفة بالأشغال في يوليو 2013 على محاولة اقتلاع تماثيل الأسود من موقعها قصد نقلها إلى مدخل الحديقة الجديدlarachenews.com. أثار هذا الإجراء احتجاجًا واسعًا من ساكنة العرائش الذين اعتبروا التماثيل تراثًا تاريخيًا ينبغي الحفاظ عليه في موقعه الأصليlarachenews.com. تجمع المواطنون داخل الحديقة وتصدى نشطاء المجتمع المدني لعملية الإزالة، مطالبين بالإبقاء على الأسود مكانها وترميم الحديقة دون المساس بملامحها الأصليةlarachenews.com. وبفعل هذا الضغط، تدخل عامل الإقليم (المحافظ) وأصدر أوامر فورية بوقف نقل التماثيل استجابةً لاتصالات من فعاليات مدنية وبرلمانية محليةlarachenews.comlarachenews.com. وهكذا تعثر مشروع 2013 ولم يُستكمل آنذاك، خاصة بعد انسحاب الشركة المكلفة نتيجة الخلاف حول موقع الأسود.

  • مشروع إعادة الهيكلة وافتتاح الحديقة (2015–2016): بعد بضعة أعوام، وتحديدًا عقب انتخابات المجالس المحلية سنة 2015، عادت قضية الحديقة للواجهة. وضعت الجماعة الحضرية بتنسيق مع السلطات خطة جديدة لإعادة تأهيل حديقة الأسود وفتحها أمام العموم من جديد. انطلقت الأشغال أواخر 2015، وشملت إزالة المرافق القديمة المهجورة مثل مقهى نادين وكشك كان مهملًا منذ زمنlaracheinfo.com، وكذلك تفكيك السياجات الحديدية العالية التي أحاطت بالحديقة واستبدالها بسور منخفض ملائم للطابع التاريخي والعمراني للموقعlaracheinfo.com. وفي 2 فبراير 2016 تم نقل وتموضع تمثالي الأسد الرخامين إلى بوابة الحديقة الجديدة بصورة رسميةlaracheinfo.com، أي تنفيذ ما عجز عنه مشروع 2013 ولكن هذه المرة بموافقة وتحت إشراف السلطات. أعقب ذلك فتح الحديقة مجددًا أمام الزوار بعد سنوات طويلة من الإغلاقlaracheinfo.com، وشوهد إقبال كبير من السكان الذين توافدوا للاستمتاع بالمكان المجدد والتقاط الصور بجانب الأسودlaracheinfo.com. وفي إطار هذا المشروع، سعت الجماعة لتعزيز جاذبية الحديقة عبر إدخال خدمات عصرية؛ إذ تم تزويدها بخدمة الإنترنت اللاسلكي المجاني (Wifi) كخطوة أولى في مشروع أوسع لتغطية ساحات المدينة وحدائقها بالإنترنتtanja24.com. وأعلن المجلس البلدي حينها عزمه على تكريس القيمة التاريخية للحديقة وجعلها مزارًا مفتوحًا للجمهور مجددًاtanja24.com، مع دراسة أفضل السبل لضمان صيانتها وحراستها المستمرة – سواءً عبر تكليف عمّال بلديين أو شركة خاصة تتولى الاهتمام بكافة حدائق المدينةtanja24.com.

  • إصلاحات وصيانة لاحقة: بالرغم من إعادة الافتتاح الناجحة عام 2016، ظهرت الحاجة إلى أعمال صيانة خلال السنوات التالية. ففي سنة 2017 قامت مصالح البلدية بتنفيذ تدخلات لتحسين الحديقة شملت ترميم النافورات وإعادة تشغيلها بعد فترة من تعطلهاlarachenews.com. وقد شوهد نائب رئيس المجلس الجماعي آنذاك، السيد مومن الصبيحي، برفقة تقنيي البلدية وهم يعملون على صيانة مضخات النافورة وتنظيف حوضها، مما أعاد تدفق المياه إلى النافورة وإحياء المشهد الجمالي الذي تضفيه داخل الحديقةlarachenews.com. جاءت هذه الخطوة استجابةً لحاجة فعلية بعد أن طال بعض الإهمال مرافق الحديقة في أعقاب الافتتاح. ورغم بساطة هذه الأشغال، إلا أنها أعطت دفعة أمل بأن اهتمام المسؤولين بالحديقة لم ينقطع تمامًا بعد مشروع 2016.

جدير بالذكر أن تسمية الحديقة الرسمية ظلت موضع نقاش خلال هذه المشاريع. فبينما روّجت الجهات الرسمية لاسم "حديقة الأسود" بعد 2016، نبّه بعض المهتمين إلى أهمية الاسم التاريخي "هسبيريديس" المرتبط بأسطورة ليكسوسlaracheinfo.com. واعتبروا أن الاكتفاء باسم "حديقة الأسود" يُهمّش الهوية الأسطورية للمكانlaracheinfo.com. بيد أن التسمية الشعبية طغت في النهاية، خصوصًا بعدما باتت الأسود الرخامية رمزًا أساسيًا للحديقة وللمدينة ككل.

4. فترات الإهمال والتدهور

على الرغم من فترات التأهيل المذكورة، عانت حديقة الأسود من فترات طويلة من الإهمال والتدهور، أدت إلى فقدان بريقها السابق وتراجع دورها الوظيفي. يمكن تتبع مظاهر هذا التدهور عبر مراحل مختلفة:

  • الإهمال قبل مشروع 2016: خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، تدهورت حالة الحديقة بشكل كبير حتى أصبحت مغلقة تمامًا أمام الزوار لسنوات طويلةlaracheinfo.com. تفككت تجهيزاتها الأساسية وتشققت ممراتها تحت وطأة غياب الصيانة، وأصبحت النباتات والأشجار في حالة إهمال. كثير من معالم الحديقة اندثرت تدريجيًا؛ فالمقهى أغلق أبوابه وتحول إلى هيكل مهجور، والقفص الذي كان يؤوي القرد خَلَت جدرانه. هذه الفترة اتسمت أيضًا بضعف الأمان في محيط الحديقة المهجورة، حيث استغل بعض المنحرفين غياب الرقابة لتحويلها إلى مرتع لأنشطة غير مرغوبة. ومع تراكم الأوساخ والنفايات، افتقدت الحديقة أي جاذبية وباتت أشبه بـ“أرض خلاء” في قلب المدينة.

  • عودة التدهور بعد 2016: رغم نجاح مشروع إعادة الافتتاح في بعث الحياة بالحديقة مؤقتًا، لم يدم الحال طويلًا. فمع مرور السنوات القليلة التالية، عاد الإهمال تدريجيًا نتيجة قلة موارد الصيانة وضعف المتابعة المستمرة. بحلول عام 2020 وما بعده، ظهرت مجددًا ملامح التردي: فالإنارة تضررت، والأرضيات تآكلت، والمساحات الخضراء لم تعد تُسقى أو تُهذّب بانتظام. وبحلول منتصف العقد (2025 تقريبًا)، وصلت حالة الحديقة إلى مستوى مأساوي من التدهور. وصفتها إحدى الصحف المحلية بأنها تحولت إلى "حالة من الإهمال الكامل، وكأنها تعرضت لقصف" من شدّة الخراب الذي حلّ بهاlaracheinfo.com. فقد غدت مرافقها محطمة وأسوارتها مخلعة، ما جعلها فضاءً منبوذًا يخلو من الزوار ولا تفكر فيه حتى الجهات المسؤولةlaracheinfo.com. بهذا عادت الحديقة فعليًا إلى دائرة النسيان، لتفقد الدور الذي أنشئت لأجله.

خلال فترات الإهمال هذه، لم تقتصر الخسائر على البنية التحتية فحسب، بل طالت أيضًا المكونات التراثية للحديقة. فاختفاء تماثيل الأسود الرخامية الإضافية – خارج الحديقة – جاء نتيجة مباشرة لغياب الحماية والاهتمام. أحد الأسود التاريخية اختفى كما ذُكر من موقع “دار الدبّاغ”، ويرجح أنه نُقل خلسة إلى مدينة فاس أو ربما استقر في حوزة جهة معينةtanja24.com. هذا الفقدان يُعد مؤشرًا على خطورة الإهمال، حيث يمكن أن تمتد آثاره إلى ضياع معالم أثرية لا تُقدّر بثمن. وبشكل عام، أدت سنوات التدهور الطويلة إلى حرمان مدينة العرائش وساكنتها من فضاء حضاري مهم، كما شوّهت صورة المنطقة الخضراء الوحيدة في مركز المدينة والتي كانت يومًا ما مصدر فخر وجمال.

5. أثر تدهور الحديقة على الفضاء العام والسكان

إن تدهور حديقة الأسود وإهمالها لم يكن مجرد مشكلة جمالية، بل كان له تبعات ملموسة على المحيط الحضري وعلى حياة السكان المجاورين والمدينة عمومًا. فمع تحول الحديقة إلى مكان شبه مهجور، فقد中心 المدينة مساحة خضراء مهمة كانت تساهم في تلطيف المناخ وتنقية الهواء في حيّز عمراني مكتظ. غياب صيانة الأشجار والمساحات العشبية أدى إلى ذبولها، مما حرم السكان من مشهد الطبيعة داخل المدينة ومن ظلٍّ وارفٍ كان يلطف الأجواء الحارة صيفًا.

بالنسبة للسكان المجاورين، انقلب الوضع من وجود حديقة نابضة بالحياة قرب منازلهم إلى بقعة مهملة قد تشكّل مصدر إزعاج ومخاطر. فقد أصبحت الحديقة المهجورة مصدرًا لتجمع النفايات والحشرات نتيجة قلة النظافة، وانبعاث الروائح الكريهة منها في بعض الفترات. كما أن انعدام الإنارة وتشقق السياج حولها جعل منها نقطة سوداء أمنياً في الحي، يتجنب المارّة المرور بقربها ليلاً خشية استغلال الظلام من قبل بعض المنحرفين. وبات الآباء يحذرون أبناءهم من الاقتراب من الحديقة، بعدما كانت متنفسًا آمناً لهم فيما مضى.

على صعيد الحياة الاجتماعية، أدى إغلاق الحديقة وتدهورها إلى خسارة فضاء للتلاقي الاجتماعي والترفيه الأسري. فالأسر التي اعتادت قضاء أمسياتها وأوقات راحة نهاية الأسبوع في رحاب الحديقة اضطرت للبحث عن بدائل أقل جودة أو أبعد مسافة. كما حُرم أطفال الأحياء المجاورة من ملعب طبيعي مجاني كان يمدهم بذكريات الطفولة الجميلة. أما كبار السن الذين اعتادوا الجلوس على مقاعدها تحت الأشجار والترويح عن أنفسهم في هوائها الطلق، فقد افتقدوا ذلك المشهد الصحي واليومي.

امتد الأثر أيضًا إلى هوية المدينة وصورتها العامة. فحديقة الأسود طالما كانت جزءًا من معالم العرائش، وإهمالها أضر بواجهة المدينة السياحية. السياح والزوار الذين يأتون مستفسرين عن "جاردان دي ليون" (حديقة الأسود) يُفاجَأون بحالتها المزرية، مما يترك انطباعًا سلبيًا عن مستوى الاهتمام بالتراث والفضاءات العامة في المدينة. وفي المقابل، أثار هذا الوضع استياء الساكنة المحلية وجرح شعورهم بالانتماء؛ فالكثير منهم يحمل ذكريات جميلة في الحديقة ويعتبر خرابها نوعًا من فقدان جزء من تاريخ المدينة وذاكرتها البيئية. وقد عبّر عدد من أبناء العرائش عن حزنهم وحنينهم للوضع السابق، خاصة من عاصروا فترة ازدهار الحديقة، حتى أن تجديدها المؤقت عام 2016 حرّك مشاعرهم بقوةtanja24.com. ولعل إحدى المواطنات لخّصت الشعور العام بقولها: "كانت حديقة الأسود فخرًا لنا، أما اليوم فقد أصبحنا نتحاشى النظر إليها" – في دلالة واضحة على حجم الألم الجماعي من إهمال هذا المرفق العام.

باختصار، تسببت حالة الخراب التي آلت إليها حديقة الأسود في خسارة بيئية واجتماعية لمدينة العرائش. فالمدينة فقدت متنفسًا حضريًا ضروريًا، وتكبد السكان تبعات بيئية وصحية ونفسية، إلى جانب تشويه صورة العرائش وتراجع مؤشر جودة الحياة الحضرية فيها. ويظل هذا الأثر السلبي ماثلًا إلى أن تتم استعادة الحديقة وتأهيلها من جديد بشكل يضمن ديمومتها.

6. التغطيات الإعلامية وآراء المجتمع المدني حول وضع الحديقة

استأثر وضع حديقة الأسود باهتمام ملحوظ من قبل وسائل الإعلام المحلية والوطنية، كما كان محورًا لتحركات نشطة من هيئات المجتمع المدني بالعرائش. وقد عكس كل من الإعلام والنشطاء مدى القلق والرفض لحال الحديقة، وكذلك الرغبة في إنقاذها وصون إرثها التاريخي.

في الإعلام المحلي، تناولت مواقع إخبارية عديدة كارثية وضع الحديقة في السنوات الأخيرة. نشرت الجرائد الإلكترونية في جهة الشمال تقارير دورية تفضح حجم الإهمال، بل استخدمت أوصافًا حادة للفت الانتباه. مثال على ذلك ما أوردته جريدة العرائش أنفو الإلكترونية في تقرير لها عام 2025، إذ شبّهت الحديقة بموقع مدمر قائلة إنها أصبحت "وكأنها تعرضت لقصف" من شدة تخريب مرافقهاlaracheinfo.com. كما عنونت إحدى المنصات الإخبارية فيديو لها بعبارة صادمة: "فضيحة... حديقة الأسود الشهيرة بقلب المدينة مُخرّبة وحالتها كارثية والمسؤولون خارج التغطية" – منتقدةً بذلك تجاهل الجهات الوصية. ولم تقتصر التغطية الإعلامية على رصد الواقع، بل امتدت لاستعراض خلفيات تاريخية مهمة تذكّر بقيمة الحديقة. ففي هسبريس مثلاً نُشر مقال يستعرض قصة تماثيل الأسود الألمانية وكيف وصلت إلى العرائش ودلالاتها التاريخيةhespress.com، للتشديد على أن ما تحويه الحديقة إرث ينبغي عدم التفريط فيه.

أما على مستوى المجتمع المدني، فقد شهدت العرائش تحركات بارزة دفاعًا عن حديقة الأسود. كانت البداية مع الاحتجاجات الشعبية في 2013 حين حاولت الشركة نقل التماثيل، حيث تجمّع المواطنون وأطلقوا شعارات رافضة للمساس بتراث الحديقةlarachenews.com. واستطاع هذا الحراك الفوري إرغام المسؤولين على وقف الأشغال آنذاكlarachenews.com. تلا ذلك مبادرات أكثر تنظيمًا في السنوات اللاحقة، من ضمنها قيام نشطاء محليين ومهتمين بالتراث بإطلاق عريضة إلكترونية دولية عبر موقع Avaaz عام 2016 للمطالبة بإرجاع تمثال الأسد الرخامي الثالث المختفي وتتبع أثر باقي التماثيل المفقودةtanja24.com. ووجّهت العريضة إلى الجهات الرسمية، منها رئيس المجلس البلدي وعامل الإقليم، مرفقةً بمناشدات بضرورة التدخل لحماية ما تبقى من هذا الإرثtanja24.com. ولاقت هذه المبادرة صدى واسعًا، ما دفع بعض ممثلي المجلس الجماعي إلى التجاوب العلني. فقد صرّح النائب الثالث لرئيس البلدية آنذاك (السيد الصبيحي) لوسائل الإعلام بأن المجلس يأخذ مطالب المجتمع المدني بجدية وسيعمل على اتباع الإجراءات الإدارية اللازمة لاسترجاع التماثيل الرخامية المفقودة وصون الحديقةtanja24.com. كما أكد حرص الجماعة على إعادة تهيئة الحديقة تكريسًا لقيمتها التاريخية وجعلها مجددًا مقصدًا للناسtanja24.com، وهو ما طمأن نسبياً الرأي العام ولو مؤقتًا.

إلى جانب العرائض والاحتجاجات، نشطت جمعيات مدنية محلية في توثيق ذاكرة الحديقة والمطالبة بحمايتها. على سبيل المثال، قامت جمعية أرشيف العرائش بإعداد مقالات ومقاطع توثيقية تسلط الضوء على تاريخ حديقة هسبيريديس (حديقة الأسود) وتطور وضعهاlarachearchives.blogspot.comlarachearchives.blogspot.com. كما طرح فاعلون ثقافيون عبر منصات التواصل الاجتماعي مبادرات وأفكار تصميمية لإعادة إحياء الحديقة، مؤكدين استعدادهم للتطوع في حملات تنظيف أو تشجير إذا سمحت لهم السلطات بذلك. ولم يتردد البعض في مخاطبة الرأي العام مباشرة؛ إذ نشر أحد الأساتذة المهتمين بالتراث مقطعًا خطابياً مؤثرًا تساءل فيه: "هل ننتظر من أسود الرخام أن تزأر بدلاً عنا؟" في إشارة إلى وجوب تحرك الأهالي للدفاع عن الحديقة وعدم الصمت.

خلاصة القول، شكّلت التغطية الإعلامية والجهود المدنية جرس إنذار متواصل حول تدهور حديقة الأسود. فقد نجح الإعلام والنشطاء معًا في إبقاء القضية حيّة على أجندة النقاش المحلي، ومنع سقوط الحديقة في طي النسيان التام. ورغم أن هذه الضغوط لم تُثمر بعدُ حلاً جذريًا، إلا أنها أرغمت المسؤولين على تبرير مواقفهم مرارًا وتكرارًا، وربما تكون قد مهدت الأرضية لأي جهود إنقاذ قادمة. ويجمع المراقبون على أن استمرار صوت المجتمع المدني والإعلام بالحدة نفسها سيكون ضروريًا لدفع السلطات نحو خطوات عملية تعيد الاعتبار لهذه الحديقة التاريخية.

7. المحاولات الحديثة لإعادة التهيئة والإدماج في المشاريع التنموية

في السنوات الأخيرة، وعلى الرغم من التحديات، برزت بعض الإشارات لمحاولات – ولو متواضعة – تروم إعادة إحياء حديقة الأسود أو استثمارها في إطار تنمية محلية أشمل. هذه المحاولات جاءت من جهات رسمية أحيانًا، ومن فعاليات مدنية وثقافية أحيانًا أخرى:

  • استخدام الحديقة في أنشطة ثقافية مؤقتة: سعى القائمون على المهرجانات الصيفية بالعرائش إلى استغلال حديقة الأسود كفضاء مفتوح للعروض والفعاليات، مما أعاد الحياة إليها لفترات وجيزة. فخلال مهرجان العرائش الدولي للثقافة والفنون والتراث 2023 و2024 احتضنت الحديقة عددًا من الأنشطة ضمن برنامج المهرجان. على سبيل المثال، نظّمت جمعية القناص القطرية (الشريك الثقافي للمهرجان) مرسمًا للأطفال في حديقة الأسود صيف 2024 لتعليم الرسم وسط الطبيعةyoutube.com. كما أُقيمت سهرات فنية وحفلات موسيقية في الحديقة ذاتها ضمن أمسيات المهرجان، حيث أحيا فنانون مغاربة وأجانب عروضًا في فضاء الحديقة بحضور جماهيري ملحوظfacebook.com. هذه الفعاليات استدعت قيام الجهة المنظمة بتأهيل موضعي للمكان (تنظيفه وإنارته مؤقتًا وتركيب خيمة ثقافية قطرية بداخله)، الأمر الذي أعطى لمحة عمّا يمكن أن تكون عليه الحديقة لو أُعيد تنشيطها بشكل دائم. ورغم أن هذه الاستعمالات ظرفية مرتبطة بأيام المهرجان فقط، إلا أنها برهنت على أن الحديقة ما زالت قابلة للاستثمار الثقافي والترفيهي متى توفرت الإرادة والتنظيم.

  • مقترحات مشاريع من المجتمع المدني: إلى جانب الأنشطة المؤقتة، قدّم ناشطون محليون ومهتمون بالتراث سلسلة مقترحات وخطط لإدماج حديقة الأسود في المشاريع التنموية والبيئية للمدينة. فمن الأفكار المطروحة مثلاً إعادة التشجير المكثّف داخل الحديقة وتوسيع رقعة المساحات الخضراء فيها لتعويض ما اندثر من الغطاء النباتيfacebook.com، وكذلك استعادة الهوية البصرية الأصلية للحديقة عبر طلاء وتجديد مرافقها بالألوان التقليدية المميزة للعرائش (الأبيض والأزرق) لإبراز طابعها المتوسطيfacebook.com. ويقترح نشطاء أن تُدمج الحديقة ضمن مسار سياحي-بيئي يشمل مواقع المدينة التاريخية (كقصبة المدينة القديمة وموقع ليكسوس الأثري) بحيث تكون محطة يستمتع فيها الزوار بجانب تاريخي (تماثيل الأسود وقصتها) وجانب طبيعي ترفيهي في آن واحد. كذلك دعت بعض الجمعيات إلى البحث عن شراكات مع مؤسسات وطنية أو دولية لتمويل مشروع إعادة تأهيل شامل للحديقة، على غرار برامج التنمية الحضرية المستدامة أو مبادرات التأقلم مع التغير المناخي التي تهتم بزيادة المساحات الخضراء في المدن. ورغم أن هذه الأفكار لم تبارح بعدُ حيز المقترحات الورقية أو النقاشات الافتراضية، إلا أنها تعكس توفر رؤية محلية لكيفية إنعاش الحديقة وتحويلها مجددًا إلى نقطة إشعاع بيئي وسياحي.

  • إدراج الحديقة في خطط الجماعة مستقبلاً: على الصعيد الرسمي، لا توجد إلى الآن (حتى 2025) خطة معلنة خاصة بإعادة تأهيل حديقة الأسود ضمن مشاريع ميزانية الجماعة الحضرية أو برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، مما يعد خيبة أمل للمهتمين. ومع ذلك، يُؤمَل أن يشهد المجلس الجماعي الجديد للعرائش اهتمامًا أكبر بهذا الملف. فبعد تصاعد الانتقادات الشعبية والإعلامية، بدأت تلوح بوادر عن نية السلطات مراجعة وضع بعض المشاريع المجمدة في المدينة، ويُفترض أن حديقة الأسود تقع ضمن أولويات التأهيل الحضري نظرًا لموقعها المركزي ورمزيتها التاريخية. وقد جاء في تصريح غير رسمي لأحد أعضاء المجلس أن هناك تفكيرًا في إدماج الحديقة ضمن مشروع تهيئة شامل للواجهة الحضرية للمدينة القديمة، لتكون بمثابة متنفس أخضر مرتبط بساحة “بلازا إسبانيا” (ساحة التحرير حاليًا) والميناء السياحي المزمع تطويره. كما يجري الحديث عن إمكانية طلب تمويل جهوي أو من وزارة الثقافة لترميم تماثيل الأسود المتبقية وتزويد الحديقة بوسائل تأمين حديثة (كاميرات مراقبة وحراسة دائمة) لضمان عدم تعرضها مستقبلاً للتخريب أو السرقة. هذه الأفكار لا تزال في طور المشاورات الأولية، ولم يصدر بشأنها أي التزام رسمي أو جدول زمني.

في المحصلة، يمكن القول إن حديقة الأسود وإن كانت اليوم ترزح تحت وطأة الإهمال، إلا أنها لم تبارح دائرة الاهتمام تمامًا. فهناك إرهاصات محلية نحو إنقاذها، سواء بتفعيلها مؤقتًا في المناسبات الثقافية، أو بطرح رؤى وحلول لإدماجها في تنمية المدينة. ويبقى التحدي الأكبر متمثلًا في تحويل هذه المحاولات إلى مشروع حقيقي متكامل ينهض بالحديقة على كافة المستويات: بنيةً تحتية، وبئية، وثقافية. فحديقة بهذا العمق التاريخي والغنى الرمزي تستحق أن تُستعاد وتُستثمر كمعلمة حضرية، لا أن تظل طي النسيان. وأملُ السكان كبيرٌ بأن تحمل السنوات القليلة القادمة أخبارًا سارّة حول انطلاق ورش تأهيل حقيقي يجعل من حديقة الأسود مجددًا درّة خضراء تزين العرائش كما كانت في سالف الأيام.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire